السبت، 16 يونيو 2018

مقاصد


من خلال دراستنا للمادة في مرحلة الماجستير
عند أ. د. نجم الدين قادر زنكي
 
نشأة فقه المقاصد


1.      نشأ مع طور التأصيل المرجعي
2.      واستوى مع طور التأسيس النظري
3.      وتطور مع طور التنظير العملي
4.      ونضج مع طور الإبداع المقاصدي
5.      تراجع مع طور التراجع والجمود
6.      عاد مع طور الإحياء ومواصلة الاجتهاد


(1)   طور التأصيل المرجعي
أو (طور ميلاد فقه المقاصد والمصالح)
-       انطلق مع نزول الوحي، بالكتاب والسنة. بالإضافة إلى ما نقل من تدابير الخلفاء الراشدين للشأن العام، ومشاورات الصحابة في مختلف الوقائع.
-       النصوص الشرعية هي الأصول المرجعية العليا التي لا قيام لفقه المقاصد إلا بها.



(2)  طور التأسيس العلمي
أو (طور التقعيد النظري)، وينقسم إلى مرحلتين:
1.      مرحلة الإشارات الأولية
2.      مرحلة التأليف العلمي

-       1. مرحلة الإشارات الأولية:
o      اللبنات الأولى لهذا الفن، وهي امتداد لطور التأصيل المرجعي، بدأت مع علماء التابعين، وتطورت شيئا فشيئا حتى أصبحت نظرية متكاملة ذات قواعد وأصول، هي (نظرية المقاصد).
o      هذه النظرية لم ينفرد بصياغتها وإبداعها إمام أو مدرسة بعينها، وإنما علماء كثر من مختلف المدارس.
o      من أشهر رجالها:
§       مالك بن أنس (179هـ) كثير الأخذ بالمقاصد والمصالح إلى درجة التفرد.
§       الحكيم الترمذي (320هـ)، من كتبه: إثبات العلل، الحج وأسراره.
§       القفال الشاشي (365هـ)، من أئمة الشافعية، له كتاب: "محاسن الشريعة"، علل الأحكام بمعانيها ومصالحها، وتقرير المقاصد العامة للتشريع.
§       ابن بابويه القمي (381هـ) من كبار أئمة الرافضة، له كتاب "علل التشريع"



-       2. مرحلة التأليف العلمي
o      هي بداية النظر في الفقه المقاصدي بشكل منظم، وفق قواعد علمية مستمدة من النصوص وعمل الصحابة.
o      تزعم هذه المرحلة، الجويني وتلميذه الغزالي:
§       الجويني (478هـ) هو مؤسس الفقه المقاصدي، وإن لم يؤلف كتابا مستقلا فيه، فكتبه مشحونة بقضايا المقاصد، الكلية والجزئية.
وأبدع في أمور، من أهمها:
·       وضع المصطلحات المقاصدية
·       التأكيد على مركزية التعليل في علم الأصول
·       تقسيم المقاصد: أفرد له بابا خاصا في "كتاب القياس" و"البرهان: سماه: "تقاسيم العلل والأصول. فاستقل بوضع التقسيم الثلاثي للمقاصد.
§       الغزالي (505هـ) أكمل مشروع أستاذه، فهذب ونقح وأضاف.
من أهم ما أبدع فيه:
·       بيان قيمة التعليل وفوائده
·       تعريف المصلحة لغة وشرعا
·       تقسيم المصلحة باعتبارات متعددة




(3)  طور التنظير العملي
يعني: النظر في الفقه المقاصدي مع استحضار مقتضيات الواقع العملي
قد تزامن هذا الطور مع ما آلت إليه أحوال الأمة من تراجع وانقسامات وحروب.
في خضم هذه الأحداث برز ثلة من أهل العلم الذين عايشوا هذه النوازل وتفاعلوا معها، وتأثروا وأثّروا فيها، فكانوا أقدر على فقهها:
§       العز بن عبد السلام (660هـ) من كتبه: "قواعد الأحكام" و"الفوائد في اختصار المقاصد". وكتابه "قواعد الأحكام" مشغول بإصلاح الأنام معرفيا وسلوكيا واجتماعيا، وفق ما تقتضيه قواعد فقه المقاصد والمصالح، من جلب لمصالح الدارين أو دفع لمفاسدهما بقدر الإمكان.
§       القرافي (684هـ) تلميذ العز بن عبد السلام، كما دون شيخه، فقد جعل في كتابيه "الفروق" و"الإحكام" التفاتا إلى تغير الأعراف والعادات ومدى تأثيرها على استنباط الأحكام وتنزيلها على أفعال المكلفين بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال العامة أو الخاصة أو كلاهما.



(4)  طور التنظير الإبداع المقاصدي
أو طور الاختراع والابتكار المقاصدي
إمام هذا الطور:
§       الشاطبي (790هـ) فقد جدد في هذا الفن ببناء (نظرية المقاصد) بناءً، فقدم نسقا متميزا له أصوله وفروعه ومقدماته ونتائجه وصلبه، وصاغه صياغة خاصة، وذلك في كتابه (الموافقات).
وأبدع في جوانب كثيرة، منها:
·       الجمع بين مقصد الشارع ومقصد المكلف
·       معرفة مقصود الشارع، بضبط المنهاج الصحيح لمعرفته
·       تحرير القواعد الجامعة وصياغتها بدقة


معايير التمييز بين مراتب المقاصد الثلاث
مختصر من بحث لـ أ.د. نجم الدين قادر زنكي

تعريف (المقاصد) لغة: جمع مقصد. والقصد: الأمّ والاعتماد.
اص: أوصاف مناسبة، ومعان حكمية، في التشريع، ملحوظة في جميع الأحكام أو معظمها، تضافرت الدلائل على وجوب تحصيلها، والسعي في رعايتها، والاعتناء بحفظها.

مراتب المقاصد الثلاث:
1.      الضرورية: ما كانت مصلحته دائرة على حفظ الإنسان كيانا ونظاما فيما تتوقف عليه حياته ومعاشه كمال التوقف. وقد يختصر في الكليات الخمس.
2.      الحاجية: ما يفتقر إليه الإنسان من حيث التوسعة ورفع الحرج والضيق، بحيث لا يختل وجود النوع الإنساني ولا نظامه باختلاله الجزئي، ولكن يلحقه بفواته عناء وحرج يفوّت عليه انتظام حياته وتواصل نظامه. وتنعت بمقصد (رفع الحرج والتيسير).
3.      التحسينية: بوجودها تزدان الحياة، ويتوسع المعاش، وتكتسب الأمة بهجة وجمالا في مرأى الأمم، وليس اختلالها جزئيا بمؤد إلى اختلال النظام ولا تفويت الانتظام. وتعاد جملة إلى الخصال المتصلة بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات.

معيار البداهة العقلية:
-       نبه الغزالي إلى مسألة المستند العقلي، وهو مدى قضاء العقول بكون الشيء ضرورة للخلق من عدمها قبل ورود الشرائع. بمعنى أنه بعد معرفة المقصود الشرعي بمسالكه، فإن تمييز رتبته في سلم المصالح يمكن أن يستند إلى بديهة العقل، بتنزيل الأحكام على تقدير المصالح لولا ورود الشرائع أو مدى ضرورة الحكم في تحقيق النظام أو سلامة الفرد والجماعة، على الرتبة التي تليق بها في سلم المقاصد.
-       البداهة العقلية: بأن تكون موجودة لدى العقلاء، وأن تستقر فيها معنى العوائد.
-       مرتبة المصلحة تظهر وتترقّى كلما لاح المعنى عند العقلاء، أو أشارت العقول إلى ظهوره، فتكون إشارات العقول إلى المصالح الضرورية أقوى من إشارتها إلى الحاجيات، وإلى الحاجيات أقوى منها إلى التحسينيات. فالحفاظ على السلامة في درجة الضرورة، والحفاظ على الكرامة في درجة الحاجة، والتزين والتطيب في درجة التحسين.
-       قوة الشيء في ذاته معيار من معايير تمييز رتبته، فالمناسبة قد تكون جليّة حتى تنتهي إلى القطع كالضروريات، فكل مصلحة لم يمكن الاستغناء عنها بحكم حتميّتها النابعة من أوصافها الذاتية، وثبوتها اليقيني الراجع إلى المدارك العقلية الراجحة أو العوائد الثابتة القطعيّة، فهو من المصالح الضرورية. وكل ما لم يكن كذلك من حيث أوصافه وأدلته، فهو من الحاجي أو التحسيني.
-       نبه الشاطبي إلى ضرورة التمييز بين الرتبة التكليفية للحكم والرتبة المصلحية. فمعيار التمييز عقلي أولا، وهو ألا يقوم ذلك الضروري إلا به، وإن كان مباحا كالأكل والجماع، وقد يكون واجبا في غير الضروري، كالمهر.
رتبة التكليف: ينصرف المسمى المحكوم فيه بالجزء، وما يتعلق برتبة المصلحة فينصرف ذلك المسمى بالكل. فكل ما كان ضروريا أو حاجيا حسب المصلحة فهو الواجب بالكل في جهة المصالح، والحرام بالكل في جهة المفاسد، وإن كان مباحا بالجزء. وإذا كان تحسينيا كان مندوبا إليه في جهة المصالح، ومكروها في جهة المفاسد.
فالأكل والبيع والجماع، كلها مباحات بالجزء في بعض الأحوال والأزمان أو إذا تركها بعض الناس، ولكن إن تركها كلهم لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل.
فهنا (جزء) معتبر في التكليف، و(كل) معتبر في المصلحة. ويطرد هذا أيضا في المندوب والمكروه، كالأذان في المساجد والنكاح.
إن عدم التلازم بين هذين الرتبتين إنما يكون في الأمور الطبعية والعادية التي تركها الشارع لوازع الطبع والجبلة، واكتفى بهذا النوع فيه عن وازع الخطاب.
أما لم يكن كذلك كالعبادات والمعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات وما أشبهها من الأمور العامة التي لا يتصور اختصاص مصالحها بشخص معين، فإن الشارع يقرر أحكامها على مقتضاها من التأكيد في مؤكدات، والتخفيف في المخففات. وقد يكون التمييز المصلحي حينئذ من أقوى الاعتبارات العقلية، لمعرفة الدرجات التكليفية في خطاب الشارع، فتتلازم مرتبة التكليف ومرتبة المصلحة، فإن كان المصلحة في أدنى الرتب كان المرتب عليها الندب، وهكذا.
تلازم العقل مع الطبع: يخفف الحكم التكليفي، مع ضرورته. فإن انتفى الطبع فالنظر حينها لما حكم به شرعا بنفس مرتبة الضرورة.
-       يتصل بهذا المعيار: (ضابط التوقف) وهو مدى قيام المعنى بنفسه، أو بغيره، ومدى قيام غيره به. فكلما كانت المصلحة قائمة بذاتها كانت ضرورية أو إلى الضرورية أقرب. وكلما كانت متوقفة على تحقق معنى أو معان أخر وكثرت الوسائط بينها وبين المعنى القائم بنفسه: تدنّت منزلتها. فينظر إلى الكلي التي تتوقف عليه المصالح الأخرى من جنسه كمال التوقف.

معيار الاطراد في الشرائع والملل:
-       عدم خلو الشرائع والملل عن المصلحة الكلية، لا إلى كامل الاشتمال عليها. فهو متجه إلى مقصود حفظ المصلحة لا إلى وسائلها. كمقصود حفظ العقل مع إباحة الخمر، أو تحريمها.
-       وهو اتفاق جميع الشرائع، فعلى مقدار اتفاقها تكون المصلحة ضرورية أو حاجية.

معيار الانحتام في الخطاب الشرعي:
-       قد تعرف مرتبة المصلحة في ميزان المقاصد من خلال مسالك التوصل إلى استخراجها، فكلما قوي مسكلها في الخطاب الشرعي، قويت في الظن رتبتها، ولا سميا في مجال التعبدات والمصالح الجزئية.
-       على قدر الانحتام الذي يتمتع به كل حكم أو معنى في الخطاب الشرعي يظهر القدر الذي يحتله في مصاف المقاصد؛ لأن عادة الشارع هي التأكيد في المؤكدات، والتخفيف في المخففات. فيكون الحكم المدلول عليه بدلالة قطعية أقوى في ميزان الترتيب من المدلول عليه دلالة ظنية، وما عُلم من الدين بالضرورة أو بالتواتر أو الاستفاضة أو جرى عليه العمل المستمر أقوى مما دونها في قوة الثبوت والدلالة، ويندرج في هذا المسلك ما تقرر من ترتيب الأحكام وتقسميها إلى فرض وحرام ومكروه ومستحب ومباح.
-       وهكذا يستقيم هذا المعيار في الأوامر والنواهي، فيتناسب الخطاب مع المقصد الذي من أجله شُرع بحسب انحتامه وقوة حمله على الإلزام، إن بالجزء، وإن بالكل.
-       لا يعني النص على شيء أنه أقرب إلى مقصود الشارع من غيره حتما؛ بل ذلك متوقف على معرفة جهة الانحتام، ومقداره في الخطاب. ويتعلق هذا بمعرفة القطع والظن في الدلالات، فكلما انتفت الاحتمالات عن النص كان انحتامه للمقصود أظهر.

معيار توافر الأدلة وتضافرها:
-       معيار على الضروري أكثر من غيره.
-       وُضعت الشريعة للمحافظة على الضرورات الخمس، وهذا معلوم لدى الأمة ضرورة، ولم يثبت بدليل معين، وإنما بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد.
-       كون مقصود الشرع مرتبطا بدلالة الأدلة يشير إلى تفاوت رتب المقاصد بتفاوت دلالة الدلائل، فلكما تكاثرت الأدلة، وتضافرت على المقصد ارتقت رتبته، وكلما أعوزته الأدلة هبطت رتبته.
-       يترتب على هذا المعيار فروق بين الضروري والحاجي في ثلاث مراتب:
o      1- مرتبة المشقة: فالضرورة تكون في المرتبة القصوى من المشقة، والحاجة متوسطة.
o      2- مرتبة النهي: النهي الذي تختص الضرورة برفعه نهي قوي في أعلى درجاته؛ لأنه مفسدته قوية، فهو نهي المقاصد. بينما تواجه الحاجة نهيا أدنى مرتبة؛ لأنه قد يكون نهي وسائل.
o      3- مرتبة الدليل: الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصا صريحا. أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يُخصص بأدنى دلالة أو قياس لا يطرد في محل الحاجة، أو قاعدة يستثنى منها.

معيار شدة العقاب عند التفويت:
-       فالضروري ما رتب الشارع الحد أو القتل على تفويته.
-       فأعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة، وأعظم المفاسد ما يعود بالإخلال عليها. والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها. بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي او تحسيني، فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه.
-       العقوبات تتفاوت مقاديرها بتفاوت قوة الاعتداء، فالعقوبة بسبب الاعتداء على ضروري أقواها، ودونها ما يكون عقوبة على الاعتداء على حاجي، ودونها ما يكون لجل التحسيني. فتفاوت الحدود والتعزيرات مرتب على مفاسد الجنايات. هذا موطن الاتفاق.

معيار النتيجة والعاقبة والأثر:
-       النظر في العواقب والمآلات، والاختلال الحاصل بتفويت المصالح، فعلى وزن المشقة والحرج أو جرم المفسدة الحاصلة من الاختلال، يكون مبلغ المصلحة ومقدار اعتبارها.
-       اجتماع العواقب السيئة وتضافرها في تفويت المصلحة يجعلها ضرورية. مثل (حفظ النسب) إذا عني به انتساب النسل إلى أصله، فليس بالأمة ضرورة إلى معرفة أن زيدا هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم؛ لكن لتفويت حفظ النسب عواقب سيئة ومضرة عظيمة تتفاقم من جهات، فيكون حفظ النسب بالنظر إلى تفكيك جوانبه من قبيل الحاجي؛ ولكنه لما كانت لتفويته عواقب بالغة السوء من مجموع هذه الجوانب، يضطرب لها أمر نظام الأمة، فعدّ حفظه في الضروري.


معيار تعرض الشرع لتحصيل المصلحة:
-       الضروري قليل التعرض له في الشريعة؛ لأنه مركوز في الطبائع. ولم تخل جماعة ذات تمدن من أخذ الحيطة له، وإنما تتفاضل الشرائع بكيفية وسائله.
-       والمراد بقلة التعرض للضروري: قلة توكيده في جانب التحصيل بالأوامر الموجبة الملزمة والزواجر الصارمة؛ لاكتفاء الشارع بملازمتها عن وازع الطبع عن وازع التكليف، أو بملازمتها عن وازع التكليف عن وازع القضاء والزواجر.
-       المصلحة بأنواعها تنقسم إلى:
o      1- ما يكون فيه حظ ظاهر للناس في الجبلّة، يقتضي ميل نفسوهم إلى تحصيله، فليس من شأن الشارع أن يتعرض له بالطلب؛ لأن داعي الجبلة يكفي الشريعة مؤونة توجيه اهتمامها لتحصيله، وإنما شأنها أن تزيل عنه موانع حصوله، كتحديد كيفية عقد النكاح.
o      2- ما ليس فيه حظ ظاهر، فيتعرض له التشريع بالتأكيد، ويرتب العقوبة على تركه.
-       القسم الذي تعرف ضرورته بتعاضد الأدلة وتضافرها هو الضروري الذي ليس فيه حظ ظاهر للمكلف، فيُعرف من تأكيد الشارع له تأكّد مصلحته.
-       والقسم الذي تُعرف ضرورته من قلة التعرض له بالطلب الشرعي الملزم هو الضروري المؤيّد بشاهد الطبع والحظ.
-       الضروريات ضربان:
o      1- ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله، فلا يؤكد الشارع طلبه؛ لأن داعي الطبع قوي جدا بحيث يحمله قهرا على توفيره، وكل ما كان شأنه هكذا مطلوبا طلب ندب لا وجوب، وكثيرا يأتي في خطاب الشارع في معرض الإباحة.
o      2- ما ليس فيه حظ عاجل مقصود للمكلف، فعلى قسمين:
§       الأول: ما يكون مطلوبا في كل مكلف، فيؤكد الشارع القصد إلى فعله بالإيجاب وإلى تركه بالتحريم، ويقيم عليه العقوبات الدنيوية، مثل العبادات البدنية والمالية.
§       الثاني: ما يكون مطلوبا طلب كفاية كالولايات العامة أو المصالح العامة التي بفقدها ينخرم النظام، وهذا ما أكد الشارع طلبه مع تأكيد النظر في مخالفة الداعي الطبعي.
-       إذن، أغلب المطلوبات الجبلية واقعة في رتبة المقاصد الضرورية، وأن الصنف الضروري قليل التعرض له في الشريعة؛ علم أن أغلب التشريعات في الكتاب والسنة محمولة على المصالح الحاجية والتحسينية، نظرا إلى قرينة التعرض.

معيار العموم والتساوي في حظوظ التشريع:
-       تقاس قوة المصلحة بحسب ما يتصف به المعنى المناسب من العموم والخصوص، والكلية والجزئية، فإذا كان للمعنى تعلق بجميع مجالات الحياة الإنسانية، أو الكم الكبير منها، أو كان يستغرق كل أفراد الأمة أو الجماعة الكبيرة منها كانت مناسبته أقوى في ميزان المصالح والمقاصد من المعنى الذي يتصل بالعدد الأقل من الأفراد والجماعات والمجالات.
-       الأصل في التشريع مراعاة استواء المكلفين في الدخول تحت مقتضاه من الحقوق والواجبات، فإن لوحظ فرق فالأصل التحاقه بمرتبة التحسين، فإن اشتدت مناسبته أمكن التحاقه بأعلى منها؛ فالمساواة في التشريع للأمة ناظرة إلى تساويهم في الخلقة وفروعهما، ولا يؤثر التمايز فيه أثرا في صلاح العالم.
-       فالأصل في الفروق أو (عوارض التسوية) أن يكون مدارها على المصلحة التحسينية في الغالب، كالتشريعات الخاصة بالمرأة والعبد. ألا ما ندر من الفروق التي تقتضيها الحاجة ورفع الحرج، فتدخل في الحاجي.
-       الأصل في أحكام الشريعة أنها على رتبة الحاجي، ولا يحمل على الضروري أو التحسيني إلا بدليل.

معيار الاكتفاء بالمظنة عن المئنة:
-       المئنة: موطن اليقين، والمظنة: موطن الظن.
-       المظنة في باب العلل والمقاصد: الوصف المتضمن للحكمة. والمئنة: الحكمة نفسها.
-       الاكتفاء بالمظنة عن المئنة: أن مظنة الحكمة تقوم مقام الحكمة نفسها، اكتفاءً بما حصل بالظن عن التحصيل باليقين، وذلك عند تعذر اليقين أو خفاء أسبابه؛ لأن الظن مطرح مع إمكان اليقين.
-       المقاصد الضرورية أو الكليات الخمس، احتاط الشرع فيها، وعلّق أحكامها بالمئنات؛ لأن الشارع لو أوكلها إلى المظنات لكان في ذلك تفريط بحقها في بعض الأحوال؛ ولأن المصالح قطعية كلية مطلقة عامة مطردة، فلا يمكن حوالتها على المظنات؛ إذ المظنة لا تطرد علاقتها بما هي مظنة له، كالسفر، فإنه مظنة تحقق المشقة، وقد يتحقق السفر، ولا تتحقق المشقة.
-       المظنة في الحاجيات تكون مقصودة للشارع أصالة وتبعا. إلا الحاجة الخاصة فهي مبنية على المئنة.

معيار استعمال الدليل:
-       التقريب بضابط الدليل، ومجال إعماله، ومعناه أن ينظر إلى الدليل الذي ثبت به الحكم، فيعرف من خلال ضابط العمل بالدليل نوع المصلحة التي تتمخض عنه الجملة. فالأدلة وضوابط استعمالها تُقرّب إلى الأذهان نوع المصلحة.
مميزات كل مرتبة:

(الضروريات)
-          على وفق البداهة العقلية.
-          تضافرت الدلائل الشرعية على معرفتها.
-          مطردة في الشرائع والملل.
-          تشتمل على أقوى مراتب المصلحة في جانب الجلب، وأقوى مراتب المفسدة في جانب الدفع.
-          إذا كانت من المعاني المفطورة المغروسة في الإنسان لم يتعرض إليها الشارع بالأوامر الملزمة إلا قليلا.
-          وإذا كانت من المعاني التي لا تستدعيها البواعث الطبعية فإن الشارع يؤكد طلبها، حتى يعرف من انحتامها في الخطاب انحتامها في المقصود الشرعي.

(الحاجيات)
-          متوسطة في وزن المصلحة.
-          .. ووزن الدليل.
-          .. وخطورة العاقبة.
-          .. وفي الاطراد العقلي والشرعي.
-          مستعصية على كثير من المقادير في كثير من الأحيان؛ لذا يتعلق كثير من أحكامها بالمظنات لا المئنات؛ لتعم المحتاج وغيره، وتكون شرعا عاما يتساوى الناس فيه كما يتساوون في التشريع الضروري.
-          أكثر أحكام الشريعة، فتتعلق أكثر الأدلة الاجتهادية بها.

(التحسينيات)
-          فروق الشريعة تعود إليها في الغالب.
-          مصالحها أقل درجات المصالح اطرادا في العقل وانتظاما في الشرائع.
-          يكثر فيها التركيب الخيالي الإقناعي والتعلق بالشبه في القياس.
-          ترتبط بالأدلة التي تفتقر إلى أدنى الرتب وأيسر الأسباب.


المقاصد الحاجية

(المقاصد) لغة: جمع مقصد، يطلق على: الأمّ والاعتماد، ومن بعض معاني اشتقاقاته: العدالة والاعتدال.
اص: أوصاف مناسبة، ومعان حكمية، في التشريع، ملحوظة في جميع الأحكام أو معظمها، تضافرت الدلائل على وجوب تحصيلها، والسعي في رعايتها، والاعتناء بحفظها.
(الحاجي) لغة: كل ما يشير إلى الطلب والأرب والافتقار.
(المقاصد الشرعية الحاجية) لغة: الأغراض المصلحية التي راعى الشارع توفير أسبابها للإنسان؛ لافتقاره إليها في المعاش.

(المقاصد الحاجية) اص:
-          ما يفتقر إليه الإنسان من حيث التوسعة ورفع الحرج والضيق، بحيث لا يختل وجود النوع الإنساني ولا نظامه باختلاله الجزئي، ولكن يلحقه بفواته عناء وحرج.
-          قد تُنعت بـ (مقصد رفع الحرج والتيسير).
-          ميزتها: متوسطة في وزن المصلحة ووزن الدليل وخطورة العاقبة والاطراد العقلي والشرعي.
-          تقع في المرتبة الثانية من المقاصد، فوقها الضروري وتحتها التحسيني.

(الضروريات) المصلحة الدائرة على حفظ الإنسان كيانا ونظاما فيما تتوقف عليه حياته ومعاشه كمال التوقف. وهي (الكليات الخمس).
(التحسينيات) بوجودها تزدان الحياة، ويتوسع المعاش، ولا يكون اختلالها جزئيا بمؤد إلى اختلال النظام، ولكن يفضي إلى الملالة والسآمة. وتعاد جملة إلى مكارم الأخلاق.

أمثلة للحاجيات على الأصول الخمسة:
-          الدين: تشريع الرخص عند أسبابها، فروض الكفايات.
-          النفس: إباحة التداوي، وكشف العورة للطبيب.
-          النسل: التشديد في نصاب شهادة الزاني، وتشريع حد القذف.
-          المال: تحريم الغش والاحتكار.
-          العقل: تحريم شرب القليل مما يسكر منه الكثير.



مرادفات مصطلح المقاصد الحاجية:
-          المصالح الحاجية.
-          الحاجات الزائدة.
-          المناسب الحاجي.
-          المصلحي أو المناسب المصلحي.
-          الضرورة أو الضرورة المحوِجة.
-          مكمّل الضروري وخادم الضروري.

خصائص الحاجي:
1-     يتحقق بتحققه التوسعة ورفع الحرج.
2-     يصعب تقدير مقاديره في الغالب.
3-     هو شرع دائم، سواء وافق سنن القياس والقواعد أو خالفها.
4-     لا يؤدي فواته عادة إلى الفساد المتوقع في تفويت الضروري.

خصائص الحاجي (تفصيل):
-          أولا: يتحقق بتحققه التوسعة ورفع الحرج
فهو يشارك الضروري في (رفع الحرج)، ويشارك التحسيني في (التوسعة)
·       الفرق في (رفع الحرج) بين الضروري والحاجي:
تعلق الضروري برفع الحرج: تعلق الوسائل والمكملات. فهو وسيلة إلى حفظ الضروري ومتمم لحكمته.
وتعلق الحاجي برفع الحرج: تعلق المقاصد والغايات. فهو مقصود أصلي.
·       الفرق في (التيسير) بين الحاجي والتحسيني:
توسعة الحاجي من الوسائل المقصودة لحفظه، تبعاً لرفع الحرج وتتميما له.
وفي التحسيني من المقاصد.
فالحاجي يلازم مفهوم رفع الحرج، ويترتب على تفويته الضيق والحرج، ولا يبلغ فساد تفويته مبلغ تفويت الضروري إلا قليلا.




-          ثانيا: الحاجة يصعب تقدير مقاديرها في غالب الأحيان
لذلك تعلّقت بالمظنات لا المئنات. وجُعلت مظنتها شرعا عاما للمحتاج وغيره؛ نظرا لصعوبة تحديد الحاجات على المئنة واليقين إلا نادرا. وإذا تعلقت بالمئنة، كانت خاصة بمن توافرت فيه الحاجة.
أما الضروريات فمبناها على الاطراد والعموم الدائم، وهذه لا تتحقق في المظنات.

-          ثالثا: الحاجي شرع دائم، سواء وافق سنن القياس والقواعد أو خالفها
فلا يكون الحاجي شرعا خاصاً، بل هو عام في كل الأحوال، ولا يحصر في الأحكام المستثناة من القواعد.
فالموافق للقياس مثل: حفظ العرض والحريات. والمخالف مثل: الإجارة والقراض.
والضروري لا ينسب إلى مخالفة القياس؛ لأن القياس لا يصادم قاعدة ضرورية.
والتحسيني يتنوع إلى موافق ومخالف للقياس.

-          رابعا: الحاجي لا يؤدي فواته عادة إلى الفساد المتوقع في تفويت الضروري
ففي تفويت الضروري: هلاك وهرج، ولكن في فقد الحاجي حرج وعنت ومشقة لا يصل إلى الهلاك.
وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما، كهلاك الجماعة وتبتر النظام عند مقاساة الحاجة لأمد طويل. فدوام الحاجة العامة قد يحولها إلى ضرورية؛ لأن من الحاجيات ما شُرع احتياطا لحفظ الكليات الخمس. والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة؛ لأنها لو تجاوزت إلى مرحلة الضرورة صارت أقوى أثرا وأعظم خطرا.





تقسيم الحاجة باعتبار تعلقها بالمظنة أو المئنة:
1-     الحاجة العامة: التي تعلقت بالمظنات، كالإجارة والقرض.
فإذا وجدت أثبتت الحكم في حق المحتاج وغيره، فلا يشترط تحققها في كل فرد حتى يعمل بها. فلها صفة الإطلاق والدوام.
وهذا القسم هو الغالب المطرد في الحاجيات، فالشرع جعلها شرعا عامة يتساوى فيها الناس، فعلقها بوجد مظنتها لا حقيقتها ومئنتها، حتى تطّرد.
2-     الحاجة الخاصة: التي تعلقت بالمئنات، كالرخص المتعلقة بالمرض من إباحة التيمم والفطر في رمضان ولبس الحرير.
معنى خصوصيتها: أنها مرتبطة بتحقق الحاجة ومقدرة بقدرها، فلا يتمتع بها غير المحتاج، ولا يجوز دوامها بعد انقضاء الحاجة.
هي من حيث كونها داخلة في أصل الحاجيات: شريعة عامة دائمة.
ومن حيث تعلقها بالمئنات: صارت خاصة بمن تحققت فيه مئنة الحاجة.

تقسيم الحاجة باعتبار الموافقة والمخالفة لسنن القياس والقواعد:
1-     موافقة: بأن يكون للقضايا الفقهية المتعلقة بموضوع معيّن ناظم يربط بعضها ببعض، ثم يكون الحكم الحاجي مشتملا على ذلك الناظم، فيستند الحكم إلى قاعدتين: قاعدة الحاجة، وقاعدة فقهية ناظمة لمجمل القضايا الداخلة في موضوعها.
كحفظ العرض عند من يراه من الحاجيات، لاستناده إلى قاعدة الحاجة وموافقته لناظم حفظ المعنويات الإنسانية كالدين والعقل والكرامة.
2-     مخالفة: بأن يكون الحكم داخلا في قاعدة الحاجة، ولكنه يرد مخالفا للناظم الفقهي الذي يجمعه بالقضايا المماثلة.
كقاعدة التقابض في المثليات الربوية؛ فإنها خولفت في القرض للحاجة.

تقسيم الحاجة باعتبار شهادة الشرع لها:
1-     معتبرة: شهد لها نص أو إجماع. كحفظ العرض، مشهود له بالنصوص المحرمة للقذف.
2-     ملغاة: شهد الشرع ببطلانها. كحاجة الاستمتاع الجنسي ملغاة في الزنى.
3-     مرسلة: لم يشهد لها باعتبار ولا إلغاء، إلا أنها ملائمة لمقاص الشرع العامة، ومن جنس المصالح المعهودة في الشريعة. كفرض الدولة للضرائب على الأغنياء عند خلو الخزينة من الأموال وقصور الموارد المالية عن الوفاء بالحاجات المستقبلة.


وظائف المقاصد الحاجية:
1-     التكاملية: العلاقة بين المراتب الثلاث علاقة تكاملية، فالحاجي مكمل للضروري، واختلال الحاجي بإطلاق يؤدي إلى اختلال الضروري بوجه ما، والمحافظة على الحاجي محافظة على الضروري.
مثال التكامل: ضروري حفظ النسل بالنكاح، والحاجي هو العقد الشرعي الصحيح، والتحسيني هو المهر والخطبة. فاختلال الحاجي لا يحقق مقاصد النكاح ولا يصحح العقد المختل، مثل النكاح المؤقت. فيتحقق مقصد حفظ النسل كاملا بتوافر الضروري والحاجي والتحسيني.

2-     الترتيبية أو التراتبية: التراتب فرع عن التكامل؛ لأن كل مرتبة نازلة من رتب المقاصد مكمّلة للرتبة التي فوقها. والتراتب لا يلزم بين الرتب المختلفة إلا عند فوات شرط التكملة، وحينئذ يتحتم تقيد الضروري فالحاجي فالتحسيني.
مثال: حفظ النفس ضروري، وحفظ المروءات مستحين، فحرّم التلطخ بالنجاسات حفظا لمحاسن المروءات، فإن دعت الضرورة إلى إحياء النفس بتناول النجس كغذاء أو دواء، كان تناوله أولى.
والحاجة العامة قد تنزل منزلة الضرورة الخاصة وقد تربو عليها. فقد ترتقي الحاجات إلى مبلغ الضرورات، وضابط هذا التحول: كمال توقف المصالح المتعلقة بالمسألة على تحقيق المصلحة الحاجية، فيصبح الوصف الحاجي أصلا، ويتوقف عليه غيره كمال التوقف، فهو في مقام الضروري.

3-     التوسعة ورفع الحرج: هي الوظيفة النوعية للحاجيات، التي تفسّر الحكمة منها، وهي حقيقتها.
والحرج هو: ما أوقع على العبد مشقة زائدة عن المعتاد حالا أو مآلا. ورفعه بمنع وقوعه أو بتخفيفه بعد وقوعه. وما يترتب عليه من الرفع قد يسمى توسعة وتيسيرا.
فرفع الحرج يتخذ طريقين:
·       الأولى: نفي الحرج ابتداء، هو الحرج الذي لم يشرع في الدين ابتداءً، كالتكليف بما لا يطاق.
·       الثانية: رفع الحرج الطارئ، ويتحقق بوسيلتين:
o      1) الترخيص في الفعل أو الترك، عند تحقق الأعذار، كرخصة الفطر في السفر.
o      2) تدارك ما وقع من الضرر أو الفساد، كالتوبة والكفارات، وكرد مظالم الناس.
ومن مظاهر التوسعة في الحاجيات:
·       رغم ورودها على مخالفة القياس والقواعد أحياناً، فإنها تُحمل على الاطراد والعموم.
·       توسعة مدار الرُخص التي لا تناط إلا بالضرورة، فلا يقتصر الإذن على نيل الضرورة، بل يمتد إلى انقضاء الحاجة. كما في أكل الميتة إذا لاحت علامات الحاجة بعد انقضاء الضرورة.
·       إقامة الحاجة العامة مقام الضرورة الخاصة، والحاجة المتوقعة مقام الحاجة الواقعة.
4-     تحقيق متطلبات المعيشة وانتظامها: تتحقق حاجة المعيشة حيثما يتحقق الحرج بحصول شيء او فواته، فهي تتسع لجميع ما يفتقر إليه النوع الإنساني من متطلبات العيش له ولما يتعلق به. وهو اتساع مقصود في الحال والمآل معاً. وقد يكون الافتقار كليا لا جزئيا، بأن تكون الحاجة إلى تحقيق نسبة معينة من شيء معين للعمر كله أو لكل فترة، على التراخي والانتظام. لذلك كان الانتظام مطلوبا في تحقيق الحاجيات، لتلغ المدى الذي يتحقق به انتظام المعيشة من غير حرج ولا ضيق.
فوظيفة المقاصد الحاجية: تحقيق متطلبات الإنسان الجسدية والنفسية والفكرية على سبيل الانتظام، من تأمين الطعام والشراب والمأوى مما لم يصل إلى الضرورة، ومثل التمتع بالأمن والحرية والكرامة وحق التعليم والتملك.
ومن أمثلة توسيع الشريعة في البيوع بالسلم والعرايا والإجارة، وفي العادات بالصيد والتمتع بالطيبات. وفي هذا العصر تظهر بتوفير المستشفيات والمدارس والجامعات والموانئ والمطارات والمحاكم مما تتعلق بانتظام أحوال الأمة وقيام قواها ودوام كيانها واستمرار وجودها.

5-     تحقيق الاعتدال الديني والدنيوي: غرض تحصيل الحاجيات هو صبغ الأحكام بصبغة الشريعة الحنيفية السمحة، ومعناها الاعتدال والاستقامة على الفطرة، لذلك ارتبط الحاجي برفع الحرج.
فالمقصود من الحاجي رفع ما ينجم عن التكاليف الشرعية من المشقات غير المعتادة، إذا ترتب عليها حرج لازم في الدين أو البدن والنفس أو المال أو ضعف القوى والطاقة التي بها معاش الناس وحياتهم، وتحقيق التيسير والتوسعة على المكلفين، لينتهوا إلى غاية الاستقامة والاعتدال، بلا إفراط ولا تفريط.
ويعود رفع الحرج عن المكلف إلى تفادي أمرين:
·       1) الانقطاع عن الطريق وبغض العبادة والتكليف.
·       2) التقصير عند مزاحمة الوظائف على المكلف.
وشروط التخفيف بالحاجيات في مواقع التحريم:
·       1) أن تكون الحاجة حقيقية لا متوهّمة.
·       2) أن يتعيّن العمل بالحاجة لرفع المشقة، بحيث لم يمكن تحصيل مقدارها من خلال الطرق المشروعة.
·       3) أن تقدر الحاجة بقدرها.

العلاقة بين الرتب المصلحية علاقة عضوية يتجاذبها طرفان: طرف رفع الحرج وإزالة المشقة وهذا يدخل فيه الضروري والحاجي فقط. وطرف التوسعة وهذا يدخل فيه الحاجي والتحسيني.
فالرتب الثلاثة متلازمة إذ أن نهاية كل رتبة منها متداخلة مع بداية الأخرى بجامع رفع الحرج والتوسعة.
التحسيني
مختصر من بحث لـ أ.د. قطب الريسوني
لغة (التحسين) من الحسن، وهو ضد القبح.
(المقاصد التحسينية) الأغراض الجالبة للحسن والبهاء، والمزايا الممهدة لكمال العيش وبهجة مرآه.

اص:
 الأخذ بما يليق من محاسن العبادات والمعاملات والعادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.

معيار التحسيني:
ما لا يتضرر الناس بتركه، ولا يلحقهم عنت بفواته، لكن حياتهم تجري على نمط يمجه العقلاء.

مرادفات المصطلح:
-       المصالح التحسينية
-       المصالح التكميلية ومكمل الحاجي ومكمل الضروري: تعبير عن المصلحة التحسينية بأثرها ووظيفتها، وهي تكميل للمصالح الضرورية والحاجية.
-       التتمّات والتكميلي: فهي كالتتمة للحاجيات، والحاجيات تتمة للضروريات، فتصير التحسينيات فرعا للأصل الضروري، وخادمة له بزيادة الحفظ والتمام.
-       الزينة: فلا يخلو التحسيني من التزيين والتجميل.
الفعل التحسيني قد يكون واجبا أو تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة:
                مثل: ستر العورة شرط لصحة الصلاة، وحكمه الوجوب.
                                وحرمة التمثيل بالقتلى
                                واستحباب التسمي بالأسماء الحسنة
                                وكراهة أكل الثوم
والناظم بين هذه على تفاوت مراتبها هو: وقوعها موقع التحسين والتكميل، لا موضع الضرورة والحاجة، فكان الحكم بكونها تحسينية من حيث أثرها في حياة الناس ومعاشهم، لا بناء على الحكم التكليفي المناسب لذلك الفعل.



أقسام المقاصد التحسينية:
أولاً: من حيث الموافقة والمخالفة للقواعد الشرعية:
1.      موافق: كستر العورة لصحة الصلاة.
2.      مخالف: كالمكاتبة، شرعت لإلغاء الرق، لكنها على خلاف القاعدة الجارية في نظائرها؛ لأن من كاتب يبيع ماله بماله، فهو تمليك الإنسان لما يملكه أصلا، والأصل أن ينعقد البيع بطرفين، ولا وجود إلا لطرف واحد في المكاتبة.

ثانياً: من حيث الاعتبار والإلغاء الشرعي:
1.      معتبر: شهد له نص أو إجماع.
2.      ملغى: شهد الشرع ببطلانه، كاتخاذ الكلب زينة.
3.      مرسل: لا يشهد له شاهد باعتبار ولا إلغاء، كعملية شفط الدهون للمرأة العجوز.

ثالثا: المجال الموضوعي، من حيث علاقته بالضروريات الخمس:
1.      خادم للدين: كستر العورة للصلاة.
2.      خادم للنفس: كتغطية الأواني في البيوت.
3.      خادم للعقل: كتأليف الكتب المنهجية في الجامعات والمدارس.
4.      خادم للنسل: كإشهار النكاح وإعلانه.
5.      خادم للمال: كبذل الصدقات لأهل الحاجة.

إذا لم يلح معنى يقوم به ضرورة أو حاجة، وظهر في الحث على مكرمة فهو تحسين


آثار التحسينيات وأبعادها الوظيفية:
1.      البعد التكميلي
2.      البعد الأخلاقي
3.      البعد الإبداعي/ الإنتاجي
4.      البعد الجمالي/ الرسالي
5.      البعد الترفيهي

أولاً: البعد التكميلي
-       العلاقة بين المراتب الثلاث كالعلاقة بين المكمل بمكمله، والخادم بمخدومه.
-       قاعدة: قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
o      هذه القاعدة أصل في تكامل المراتب الثلاث، وتناصرها على جلب المصالح وتكميلها، وأن المرتبة وإن تدنّت في التصنيف المصلحي، فإنها تعود على أصلها بالحفظ والتمام، فالتحسيني تكملة للحاجي، والحاجي تكملة للضروري. والمخل بما هو مكمل كالمخل بالمكمل، أو متطرق للإخلال بالمكمل. ولو لم تراع الحاجيات والتحسينيات، لصار الضروري متكلّف العمل، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشرعية، إذ يلبسه الحرج والعنت.
ومن تصور حقيقة المندوب ومقصوده الشرعي: هو خادم للواجب من جهة التذكير به، والتمكين له. والتارك للمندوب جملة، فإن ترك الأخف قد يتطرق به إلى ترك الآكد، ومن هناك يكون المندوب سياجا واقيا للواجب، يسد الذريعة إلى الإخلال به.

-       قاعدة: ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني للضروري.
o      معناها: أن المحافظة على الحاجي والتحسيني تؤول إلى الحفاظ على الضروري؛ لكونه أصلا لما سواه. ووجه ذلك: أن المكمِّل خادم للأصل المكمَّل.
-       فالحاجيات والتحسينيات تنتهض بمجموعها فردا من أفراد الضروريات، بالنظر إلى لحمة المصلحة المرعية لا إلى رتبة التصنيف المقاصدي؛ إذ التحسيني يدور بالخدمة حول الحاجي، والحاجي حول الضروري، فيغدو الأخف حمى حول الآكد، ووسيلة إلى الترغيب فيه، وتحسين صورته شرعا وعرفا.
-       الشرط في اعتبار المكمِّل ألا يعود على المكمَّل بالإبطال، فلو كان رعي التحسيني مفضيا إلى إبطال الحاجي أو الضروري، سقط اعتباره نظرا إلى المآل، ولو كان رعيه عائدة على مصلحة المرتبتين بزيادة حفظ وتكميل، فذلكم هو العائد المرجو.
ثانياً: البعد الأخلاقي
-       باب مكارم الأخلاق واسع، ورتبها متفاوتة، فمنها ما هو ضروري، ومنها دون ذلك. وينشأ عن اختلال أمهات مكارم الأخلاق اختلال المقاصد العليا التي ينتظم بها أمر المعاش والمعاد، وينشأ عن اختلال الكمالات والمزائد مجانبة أحسن المناهج في السلوك والأدب.
-       فمتى يحمل التحسيني في مكارم الأخلاق؟
o      التحسيني لا يكون في مكارم الأخلاق ألا بعد تعذر حمل الوصف المناسب للحكم على معنى ضروري أو حاجي، فإذا ظهرت مناسبة الوصف للتشريع ولكن لم تلح منه ضرورة أو حاجة وأمكن ربطه بمكارم الأخلاق والمزائد والفضائل: عللنا الحكم بذلك الوصف، وربطنا مناسبة الوصف بذلك الغرض اللائح من المكارم والفضائل، وعددنا ذلك في باب التحسيني.
وبهذا يندفع الوهم الحاصل في ذكر مكارم الأخلاق في التحسينيات، فذلك حصر بتعذر الحمل على الضروري والحاجي فقط.

ثالثاً: البعد الإبداعي/ الإنتاجي
-       الإنتاج في المفهوم الإسلامي ليس مقصورا على تحصيل الضروريات وما تدعو إليه الحاجة الزائدة على الضرورة؛ بل يتناول الأشياء التحسينية الراجعة إلى حب الزينة والتجمل؛ لأن الشارع يدرك من فطر الناس حبا للرغد والتبسّط، فأقرهم من غير إسراف: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}

رابعاً: البعد الجماليّ/ الرسالي
-       النزوع الجمالي في المقاصد التحسينية يسعى إلى الموازنة بين المطلبين الروحي والمادي؛ ذلك أن جمال القلب والسريرة والخلق، يتممه جمال الشكل والهيئة والمرأى، فلا يُرى المسلم إلا حسنا في مخبره ومظهره. فالتحسينيات ذات أثر ملحوظ في تعميق الوعي الجمالي، وتحسين السلوك العام، وكأنها تقوم مربيا داعيا إلى أحسن المناهج، وأكمل الهيئات، ليكون المسلم في سعة من أمره.
فهل للجمال الحسي والمعنوي أثر في حياة الأفراد والجماعات حتى يقوم بعدا في المقاصد التحسينية؟
المصالح التحسينية، والمعاني الجمالية توطئ الأكناف لكمال الامة واستقامة نظامها وبهجة منظرها؛ بل إن الأمة لا تعيش مطمئنة البال، مرهوبة الجانب، معظمة في مرأى الأمم إلا بجمال الحس والمعنى، مما يرغب غير المسلم إلى الإسلام، والتقرب من أهله. وهذا هو البعد الرسالي الدعوي لكل مقصد تحسيني.
خامساً: البعد الترفيهي
-       إن للترفه والتلذذ بالطيبات بعدا وظيفيا راسخا في المقاصد التحسينية، لا يقتصر على الإمتاع الذوقي والإشباع الجمالي؛ بل يتعداهما إلى تمهيد السبيل للاستزادة من التعمير في الأرض، وقطع الملل عن النفوس العاملة، وتوسيع دائرة الإنتاج الإبداعي وتكثيره.
-       إن من أجلى الشواهد على المقاصد التحسينية ذات البعد الترفيهي الترويجي، إقامة الحدائق والمتنزهات بين المساكن العمرانية، وتزيينها. فيملأ النفس سرورا، ويكون أقوى للطاعة وتجديد النشاط، وأبعد عن الملل والانقطاع، ولم يخلق الله عز وجل موارد طبيعية وأصناف الحيوان في أشكال متباينة وألوان شتى إلا لغرض الترويح المباح والاستمتاع المشروع: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمالٌ حين تريحون وحين تسرحون} وهذه الموازنة القرآنية المثلى بين الانتفاع المادي والاستمتاع الذوقي، دليل على أن الشارع يرى في العنصر التحسيني والجمالي غذاء الروح والذوق والإحساس.



صلة الرتبة المقصدية باستعمال الأدلة الحكمية

من علامات الضروري:
-          رعاية الكليات الخمس مباشرة.
-          فقده يؤدي إلى الهلاك والهرج واختلال النظام.
-          به سلامة الأديان والأبدان.
-          لا يسع تركه.
-          قوة الأدلة الدالة عليه، واطراده عقلا وشرعا، وعلو مراتب مصالحها.

من علامات الحاجي:
-          به رفع الحرج والمشقة، وتحقيق التوسعة عند الضيق.
-          تعلقه بالمظنات غالبا؛ لصعوبة تقدير الحاجات على اليقين بسبب تفاوتها.
-          التوسط في مراتب أدلته، وفي اطراده العقلي والشرعي، وفي وزن مصالحه.
-          فقده يؤدي إلى العسر والمشقة والحرج، لا الهلاك، إلا عند مصابرته ودوامه.
-          تعلقه بالأمور المعنوية أكثر من البدنية.
-          يسع المكلفين تركه مع المشقة غالبا، كالإجارة.

من علامات التحسيني:
-          به كمال المظهر العام للأحكام، خصوصا ما يتعلق بمكارم الأخلاق والمروءة والأدب.
-          في أدنى الرتب المصلحية، لا تتسم بالاطراد العقلي، وتختلف فيه الشرائع.
-          يقع في أسفل سلم المقاصد من حيث وزن الأدلة والمصلحة والأثر، فلا يترتب على فقده هلاك ولا حرج، ولكن ذهاب الهيبة والبهجة.
-          يسع تركه بلا مشقة في الغالب.

الفرق بين القياس والاستصلاح الملائم والاستصلاح المرسل:
(القياس) إلحاق: بوجود الجامع (الأصل)، مع انتفاء الفارق المؤثر.
(الاستصلاح الملائم) بالنظر إلى الجامع مع إهمال الفارق، فيثبت حكم الفرع استشهادا بالأصل. كأخذ الضريبة من الأغنياء للحاجة؛ وشاهده: اقتراض النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا استشهاد وليس قياسا.
(الاستصلاح المرسل) إثبات الحكم من خلال الضرورة أو الحاجة من مجرد تصرفات الشريعة بلا استشهاد بأصل معيّن.
صلة المقاصد بالمصالح المرسلة:
-          الاستصلاح المرسل: هو الاستدلال بالمعنى الكلي كالضرورة أو الحاجة دون الاستشهاد بأصل معيّن.
-          فالاستصلاح دائر على الضروري والحاجي.
-          إن كان الفكر المصلحي موافقا للقواعد كان استصلاحا، إذا لزم منه رفع الحرج بتخفيف الحكم المتعلق بالضروري والحاجي.
-          من دوافع الأخذ بالاستصلاح:
o      استجداد واقعة فقهية تشتمل على مصلحة يُخشى فواتها كليا أو جزئيا إذا تأخر البت فيها وأنظرها الفقيه إلى وقت توافر دليل معيّن عليها.
o      تنازع أصلان معتبران لكل منهما مصلحة معتبرة، في حكم مسألة.
-          متى يجوز اعتماد المناسب المرسل دون الشواهد ودون إثبات الملاءمة؟ أو متى يلزم الاستظهار بالشواهد في إثبات ملاءمة المصلحة؟
o      المرسل الضروري يحتج به وفاقا بمجرد لمح مصلحته وعدم مخالفته للنصوص والقواعد، دون حاجة إلى إثبات الملاءمة.
o      أما المناسب الواقع في رتبة التحسينيات فلا يجوز الاستمساك به ما لم يعتضد بأصل معيّن ورد من الشرع الحك فيه على وفق المناسبة.
o      ومتى ما كان اختلال المصلحة التحسينية أو الحاجية يلزم منه اختلال الضروري، فإنه يعتبر اعتبار الضروريات.
-          لم اعتمدت المصالح الضرورية والحاجية دون وجدان الملاءمة أو الشواهد الخاصة، ولم تقبل المصلحة التحسينية من غير هذه الشواهد؟
o      المصلحة يفترض وجدان دليلها نصا أو قياسا أو إجماعا، ولكن لما كان التوصل إلى ذلك الدليل المعين في المسألة صعب المنال لأسباب كثيرة، فإن العلماء اصطلحوا على (الاستصلاح) الذي يحيل الحكم على ملكة المجتهد في مداناة المصلحة وتقريبها من تصرفات الشارع والمصالح المعهودة فيه، إذا كانت ضرورية أو حاجية؛ لأن القطع بمقصودية المصالح مرجو إذا كانت في رتبة الضرورات أو الحاجيات، دون التحسينيات، فلم يكن إحالة الحكم واسترساله على مجرد الضرورة والحاجة تفريطا في حكم الأدلة والشواهد المقدرة.
-          رجوع المصلحة المرسلة إلى الضروري من باب الوسائل لا المقاصد. ورجوعها إلى الحاجي من باب المقاصد؛ لأن المقصود منها إن كان رفع الحرج، فهو المعنى الأصل للحاجي، ولكنه في الضروري معنى تابع. فدليل الاستصلاح المرسل يُثبت من الأحكام ما هو من الوسائل للمقاصد الضرورية، كجمع المصحف لحفظ الدين، ويثبت ما هو من المقاصد في الرتبة الحاجية.
فدليل المصلحة المرسلة يشير إلى المقاصد الحاجية أصالة مقصدية، وإلى المقاصد الضرورية تبعا ومن باب الوسائل. ولا ريب أن الوسائل مجعولة في الدرجة الثانية من المقاصد، فلذلك كان من قواعد الفقه إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة.

صلة المقاصد بسد الذرائع وفتحها:
-          سد الذرائع: منع المأذون فيه لئلا يتوسل به إلى ممنوع.
-          فتح الذرائع: إجازة الوسائل المفضية في غالب الظن إلى مصلحة راجحة.
-          لا تسد الذريعة إلا إذا كان إفضاؤها إلى المحرم مقطوعا به أو غالبا على الظن، وبشرط أن يكون تفويت مصلحة الإباحة أدنى في ميزان المقاصد من تفويت المنع، وأن تنضبط مفسدة المآل حكما ومناطا. فما حُرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وهذا يعني لزوم فتح الذريعة عند رجحان مصالح الإذن على مفاسد السد.
-          مثال الذريعة: تحريم البيع والشراء وقت النداء إلى الجمعة، فالنهي نهي ذرائع، بألا يكون البيع ذريعة التخلف عن شهود الصلاة. لذلك جاز البيع للمصلحة الراجحة.
-          التمييز بين (الاستصلاح بالمنع) و (سد الذرائع)، أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا التشديد:
o      فالاستصلاح: منع الوسيلة وسدها إن كان يخدم مصلحة ضرورية، كقتل الجماعة بالواحد منعا لاتخاذ الاجتماع وسيلة إلى سفك الدماء. فلا يعتبر هذا سدا للذريعة.
o      الاستصلاح: منع الوسيلة وسدها لمقصد حاجي، إن كان السد يرفع حرجا لازما، ويلزم منه تخفيف الحكم، كتضمين الصنّاع، فعدم تضمينهم يترتب عليه حرج إقامة دعوى الخيانة والتقصير. فلا يعتبر هذا سدا للذريعة.
o      سد الذريعة: إذا كان سد الوسيلة لمقصد حاجي، بأن يرفع حرجا لازما، ولزم منه تشديد الحكم. مثل: منع بيوع الآجال عند مالك سدا لذريعة الربا، فهذا تشديد للحكم خادم لمصلحة حاجية وهي سلامة العقود.
o       الاستصلاح دائر على جلب المصلحة ودفع المضرة بوسائل حفظ الضروري، ودائر على مقصد رفع الحرج بالتخفيف في الحاجي، وأنه لا مكان له في التحسيني.
o      أما سد الذرائع فمداره على الحاجي والتحسيني، ولا مكان له في الضروري أصالة، بل تبعا، ومن باب الحاجي المكمل للضروري.
o      إن جرى سد الذريعة في الحاجي، فبالتوسعة الحاصلة من تشديد الحكم، لا تخفيفه.
-          مما يدل على تعلق سد الذرائع برتبة الحاجي والتحسيني، هو أن الإذن الذي عارضته الذريعة يرفع حرجا، ورفع الحرج من مطالب الضروري والحاجي، فيجب أن يكون الحكم الطارئ لعارض الذريعة أدنى رتبة منه وألا يكون في أعلى الرتب؛ وإلا لاستوت مصلحة الإذن ومصلحة المنع في خطاب الشارع أصالة. ومع الاستواء بين مصلحة الإذن الوارد في الخطاب الأصلي، ومصلحة المنع الطارئ، لا يكون الشيء مأذونا فيه أصالة؛ فدل ذلك على أن مصلحة السد الطارئة دون مصلحة الإذن الثابتة بالاقتضاء الأصلي لخطاب الشارع.
-          ونظرا لأن سد الذريعة وفتحها من الأدلة التي تقتضي تغيرا وتبدلا في الأحكام الأصلية، فهذا الدليل أقرب إلى مجال التحسيني من غيره.

صلة رتب المقاصد بالاستحسان:
-          الاستحسان مآله إلى إحقاق العدل ورفع الحرج، والأخير هو المعنى الانطباقي والأثر الظاهر عن تحقيق المقاصد الحاجية وتفعيلها. فالمقصود الأعظم من الاستحسان الفقهي عائد إلى تحقيق غايات مقصدية، أخصها: التيسير ورفع الحرج. فيكون المقصود الحاجي هو الناظم لصور الاستحسان الفقهي، غالبا.
-          الاستحسان مناطه في الغالب رفع الحرج، ويتحقق في ثلاث صور:
o      1) استثناء الحاجي من الضروري تحقيقا لرفع الحرج. كاشتراط العدالة في الشهود، حفاظا على مصالح الشهادة المتعلقة بالضروريات، فتعميمها في جميع البلدان فيه حرج، فرخص للحاجة.
o      2) استثناء التحسيني من الحاجي، كاشتراط العدالة في الولاية، فتعميمه في الأوصياء فيه حرج، فاستثني فيه.
o      3) استثناء التحسيني من الضروري، كالجمع بين الصلاتين من غير سفر ولا مطر ولا مرض ما لم يتخذ عادة، فإنه تحسيني وقع الاستثناء به على ضروري أداء الصلاة في وقتها.
-          فالاستحسان يقتضي رفع الحرج والمشقة إلا أن ذلك يختلف باعتبار موارده، فقد يقتضي رفع الحرج تحقيق مقصد حاجي فحسب، وذلك بالوقوف عند الحد الذي يرفع الحرج، وقد يقتضي رفع الحرج توسعة ظاهرة على المكلف، بحيث يتجاوز الاستثناء موضع الحرج ويصل حد التيسير البالغ مبلغ التحسين والتزيين، وهنا يتحقق بالاستحسان مقصد حاجي متمثل برفع الحرج، ومقصد تحسيني يتمثل بالتوسعة إلى حد التزيين، وفي كل هذه الصور نجد (رفع الحرج) هو الحد الأوسط المكرر في صور الاستحسان كلها.






من خاتمة البحث:
-          القياس الجزئي ولو كان جليا يُترك للقاعدة الكلية الضرورية والحاجية.
-          التحسينيات لا ينضبط معناها في الغالب، فيتعلق بها قياس الشبه الصوري، وقياس غلبة الأشباه.
-          من إشارات التمييز بين الاستصلاح وسد الذرائع والاستحسان:
o      إن كان الفكر المصلحي مخالفا للقياس والقواعد فهو (استحسان).
o      وإن كان موافقا فهو (استصلاح)، مع لزومه رفع الحرج بتخفيف الحكم المتعلق بالضروري والحاجي.
o      إن كانت الرتبة تحسينية أو حاجية وجرى فيها تشديد الحكم فهو (سد للذريعة).
o      (الاستصلاح) دائر على الضروري والحاجي.
o      (الذرائع) دائرة على الحاجي والتحسيني.
o      (الاستحسان) يجوز دورانه على الرتب الثلاث، إلا أن الناظم لصوره في الغالب هو في المقصود الحاجي.
o      (وظيفة الاستحسان) رفع الحرج في الغالب.
o      (وظيفية التحسيني) رعاية الأمثل والأحسن.


التبعية
(حظ المكلف) الدواعي التي تحمله على اكتساب ما يحتاجه إليه هو وغيره، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة ما أمكنه، مثل: شهوة الطعام والنكاح.
المقاصد من حيث الأصالة والتبعية:
1-     متعلقة بالحظوظ: باعتبار محل التكليف أو فعل المكلف.
2-     متعلقة بخطاب الشارع: باعتبار خطاب الشارع.

المقاصد المتعلقة بالحظوظ:
1-     أصلية: لا حظ فيها للمكلف، وهي الضرورات المعتبرة في كل ملة. فيجب مراعاتها، ولا يلتفت إلى قصد المكلف.
2-     تبعية: روعي فيها حظ المكلف، فتراعى مقاصده. وهي الحاجيات وما دونها التي يحصل بها سد خلاته ونيل حظوظه.

المقاصد المتعلقة بخطاب الشارع:
-          من حيث كون العربية لغة تدل على المعاني:
1-     دلالة أصلية: ألفاظ وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة. فهي ما دلت عليه الألفاظ بوضعها اللغوي بحسب الغرض الأصلي الذي سيق لأجله، التي تشترك فيها الألسنة، ولا تختص بأمة بعينها.
2-     دلالة تبعية: ألفاظ وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة. هي التي يختص بها اللسان العربي. فهي مما استفيد بطريق زائد على الوضع.
فهناك:
1-     قصد دلالي: المعنى المراد للشارع من الخطاب، ولا يستقيم بدونه فهم معانيه ولا استنباط الأحكام منه. (دلالة أصلية ودلالة تبعية، كما سبق)
2-     قصد تشريعي: رعاية مصالح الناس في الدارين، وعليه بنيت تقسيمات المقاصد ودرجاتها. (مراتب المقاصد الثلاث).
-          (المقاصد الأصلية) المرادة بالقصد الأول، لقوتها من حيث المسالك الدالة عليها في الخطاب، مثل: المقاصد المفهومة من الأوامر والنواهي، ومن النص والمفسر والمحكم.
-          (المقاصد التبعية) المعاني المرادة بالقصد الثاني، مثل: مفهومي الموافقة والمخالفة، والمتروك لوسائل الاجتهاد كالنص والاستحسان.

أسباب التبعية في المقاصد:
-          الأسباب: فيما يعود إلى حظ المكلف:
o      مراعاتها لحظ المكلف. فهي قائمة على مراعاة حظ المكلف، فهو تابع لا أصل.
o      تعلقها بالحاجيات والتحسينيات نظرا للحظ المتوافر فيها للمكلف.
o      تعلقها بالوسائل، فهي من حيث هو وسائل غير مقصودة لأنفسها، وإنما هي تبع للمقاصد.
o      تعلقها بالمباحات والمندوبات أكثر من الواجبات والمحرمات.

-          الأسباب: فيما يعود إلى خطاب الشارع:
o      السبب الأول: التبعية الدلالية:
§       في عبارة النص[1]، كقول الله {فانكحوا ما طاب لمن من النساء مثنى} فحكم إباحة النكاح مقصود تبعا، وذُكر ليتوصل به إلى المقصود أصالة وهو التعدد. فالتبعية الدلالية في عبارة النص تابعة للسياق.
§       في الظاهر والنص[2]، كقول الله {وأحل الله البيع وحرم الربا} ظاهرة في حل البيع وتحريم الربا، ونص في عدم التماثل بين البيع والربا على قول من زعم {إنما البيع مثل الربا}.
§       في دلالة الإشارة[3]، كقول الله: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} مع {وفصاله في عامين} فأخذ من إشارة الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. إذا فقد شرط التبعية فلا احتجاج بإشارة النص.
§       في مفهوم الموافقة[4]، كقول الله {فلا تقل لهما أف} دليل على تحريم الشتم والضرب.
§       في مفهوم المخالفة[5]، كحديث زكاة سائمة الغنم، فمفهوم المخالفة: لا زكاة في غير السائمة.


o      السبب الثاني: التبعية القياسية[6]:
§       إذا وجد القدر المؤثر في الأصل وجودا ضعيفا يقل عن درجة التأثير = لا يعتبر قياسا. ولا بد في الوصف المؤثر في الأصل أن يكون من بدايته متساويا في الأصل والفرع.
§       شروط الفرع:
·       التساوي مع الأصل في وجود العلة.
·       خلو الفرع من نص أو إجماع.
·       ألا يتقدم حكم الفرع على الأصل (في الشرط خلاف).
§       من شروط العلة:
·       وجودها في الأصل.
·       عدم المانع من الجريان في الصورة المقيسة.
·       عدم المعارض من نص أو إجماع.

o      السبب الثالث: التبعية المصلحية:
§       أهم شرط بين المصالح المرسلة ومقاصد الشرع: الملاءمة وتوافر الشاهد. لتحقق شرط التبعية، فلا تنافي أصلا من أصول الشرع ولا تعارض دليلا قطعيا، بل يجب الاتفاق مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وإن لم يشهد لها دليل خاص.
§       المصلحة التي لا تسير على مقاصد الشريعة لا تنتظم في التشريع، فهي مردودة. فاشتراط شهادة تصرفات الشارع للمصالح المستجدة نابع من ضرورة الالتزام بوحدة المنطق التشريعي، فلا تقبل مصلحة لا شهادة لها من الشرع وإلا كان ذلك استباحة لحمى الشرع.



o      السبب الرابع: التبعية الاستصحابية:
§       (1) استصحاب البراءة الأصلية (العدم الأصلي) شرطه: عدم وجود الدليل، فالتبعية عائدة إلى انتفاء الدليل الموجب لشغل الذمة، كنفي صلاة سادسة.
(2) استصحاب حكم ثابت بالإجماع في محل النزاع، كانعقاد الإجماع على بطلان صلاة المتيمم إذا رأى الماء قبل صلاته.
(3) استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه لوجود سببه، كالملك عند حصول السبب.
(4) استصحاب العموم إلى أن يرد المخصص، واستصحاب العمل بالنص إلى أن يثبت ناسخ له.

o      السبب الخامس: التبعية الذرائعية
§       فالتبعية في الذرائع ناجمة من تعلقها بالوسائل، لذا كان العمل بالذرائع سدا وفتحا منصبا في مجال المقاصد التبعية، أما الأصلية فإن حفظها موكول إلى أصل التشريع، فيسيج بسياجه.

o      السبب السادس: التبعية السكوتية
§       الاستدلال بالسكوت تبعي في إفادة مقصد التشريع؛ لحاجته إلى القرائن، ولتأخره عن الأدلة الخطابية الأصلية والتبعية.
§       إلا أن السكوت في باب العبادات يفيد مقصدا أصليا؛ لأن شرع العبادات مقتصر على ورود الخطاب، ولا يجوز إثباتها بأدلة تبعية.




صلة المقاصد التبعية بالأصلية: باعتبار الحظ وباعتبار الخطاب

التبعية باعتبار الحظ:
1-     أصلي: أصل لما سواه من التبعي، والتبعي يتردد على الأصلي لتكميله. كرفع الحرج عن المريض في الصلاة قائما بالقعود والاضطجاع.
2-     اختلال الأصلي اختلال للتبعي، فالأصل إذا اختل اختل فرعه، فلو فرضنا أن الصلاة ارتفعت فيرتفع معها ما تابع ومكمل لها من قراءة وتكبير ونحوه.
3-     لا يلزم من اختلال التبعي اختلال الأصلي بإطلاق، فالأصلي مع التبعي كالموصوف مع أوصافه، والموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه، مثلا: إذا بطلت أذكار الصلاة وتكبيرها غير تكبيرة الإحرام فلا تبطل بها الصلاة لأنها ليست ركن.
4-     قد يلزم من اختلال التبعي بإطلاق اختلال الأصلي بوجه ما، بأن يكون ناقصا، فالمجترئ على الأخف معرض للتجرؤ على الأثقل؛ فمراتب المقاصد مرتبطة مع تفاوتها. مثلا: الصلاة، المخل بما سوى الأركان متطرق للإخلال بالأركان؛ فلو اقتصر على الفرائض فيها لم يكن فيها ما يستحسن.
5-     أنه لما كان الأصلي قد يختل باختلال مكملاته وتوابعه، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة، ولأنه إن كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها، كان من الأحق أن يخل بها.

تبين لنا:
-          المقاصد التبعية خادمة للأصلية ومكملة لها.
-          المقاصد التبعية من الحاجيات والتحسينيات وسيلة في حصول المقاصد الأصلية.



صلة التبعية بالأصلية باعتبار الخطاب:
1-     كل معنى عارض السياق الأصلي فهو مردود، هذه قاعدة في صيانة المعنى عن معارضة السياق، فلا يجوز تفسير النص بما يأباه السياق، ولا أن يحمل الخطاب على معنى أو تستخرج منه دلالة إن كان السياق مستعصيا عليه، أما إن كان مما يحتمله السياق أو يشير إليه فإنه يجوز المصير إليه إذا لم يعارضه ما هو أولى منه، سواء ورد ذلك العارض في سياقه أو في دليل آخر. فالغلط في هذا الباب مثل من توسع في آية الحجاب بكونها مرتبطة بالأعراف المختلفة في البلدان والأزمان.
2-     سلامة المعنى التبعي مقيدة بسلامة المعنى الأصلي، هذه قاعدة في بيان حرمة المعنى الأصلي، فلا يجوز عود التبعي على أصله بالبطلان؛ لأن التبعي فرع، فلو عاد بالبطلان على أصله لبطل اعتباره. فلا بد أن يكون المعنى الأصلي سليما حتى يصح التبعي.
3-     اشتراط التبعية الدلالية بالتوكيد والتوثيق، والدلالة التبعية تؤخذ منها الأحكام؛ لأنه كما اعتبر المعنى الأصلي أساساً وجب اعتبار التبعي، ولأن كلام الشارع نزل بلسان العرب، والاعتبار عند العرب بالدلالتين. مثال التبعي المؤسس لحكم شرعي: أن من أصبح جنبا وهو صائم فصومه صحيح، يؤخذ من إشارة النص من قوله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} مع قوله {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}، فيلزم من جواز الوقاع آخر لحظة من الليل أن يطلع الفجر قبل الاغتسال.
4-     كل معنى تبعي خرج عن ضوابط البيان الأقل فهو باطل، وكذلك لو عاد عليه بالإلغاز واللبس. لأن المقصود من الخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم بكلامه. فكل فهم تجاوز أقل فهم من خوطبوا به وقت نزوله أو قصر عنه فهو فهم ساقط؛ لأنه يخرج الخطاب من كونه خطابا، ويجعل النص معدوم المعنى أو داخلا في لعبة اللغات. ومثال الغلط في هذا الباب تفسير الضرب بهجر بيت الزوجية في قوله تعالى عن الناشزات {فاضربوهن}.
5-     التبعية القياسية مشروطة بسلامة الحكم في الأصل من:
o      النسخ، فإن كان الحكم منسوخا زال اعتبار الجامع، فلا يقاس صوم رمضان من غير تبييت على صيام عاشوراء.
o      الخصوصية، فهي تمنع التعدي، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، كالزواج من تسع نسوة.
o      خلاف القاعدة المستقرة في الشرع، كضرب الدية على العاقلة.
o      التمحض التعبدي وغياب المعقولية، كأعداد ركعات الصلاة.
o      العود عليه بالإبطال، فكل تعليل عاد على أصله بالبطلان فهو باطل.
o      القوادح فيه.
6-     التبعية المصلحية مشروطة بالملاءمة والتقريب وعدم الإفراط، فحجية المصالح المرسلة مشروطة بأن تكون موافقة لمقاصد الشريعة، ولا تخالف أصلا شرعيا، وذلك باستناد المعاني إلى الأصول. مثال: استعمال وسائل الإعلام في الدعوة بالقدر الذي لا يتنافى مع أصول الشريعة.
7-     التبعية الاستصحابية مشروطة بانتفاء المغير، فلو ورد المغير لبطل ولما صار استصحابا، والمغير بالنسبة للبراءة الأصلية أي نص في المسألة ...
8-     التبعية الذرائعية مشروطة بغلبة الإفضاء، إن لم يكن غالبا. فالمفسدة إن كانت نادرة الوقوع فالأصل عدم المنع؛ لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندرة في انخرامها، وإن كانت كثيرة ولزومها غالب فالراجح المنع؛ لأنه لا اعتبار بالندرة في عدم الوقوع، كقول الله {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}. والنادر في سد الذرائع لا عبرة له، وإنما العبرة بغلبة الإفضاء وكثرة الوقوع وجودا. ومثال الغلط في هذا الباب منع بناء الشقق السكنية بحجة إفضائها إلى الزنى.



خصائص المقاصد التبعية المتعلقة بالحظوظ:
1-     أنها من مقتضيات لطف الله بعباده.
2-     لو عدمت أصلا لم تتحقق الأصلية لتوقفها عليها.
3-     حصول النفع بها للجميع.
4-     مطلوبة طلب الندب والإباحة، لا طلب الوجوب، غالبا.
5-     تجرد المكلف فيما أذن له فيها من الحظ يصيرها عبادة.
6-     البناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الإلزام.

خصائص المقاصد التبعية المتعلقة بالخطاب:
1-     قوة المقاصد التبعية في ميزان الشريعة مقيسة بقوتها في ميزان المقاصد الأصلية؛ لأن معيار التفاضل يتمثل بالنظر إلى كل تبعي ورتبته من أصله، فهو مرتبط به طردا وعكسا، فالوسائل لها أحكام المقاصد، والفروع لها أحكام الأصول تبعا للعلل وجودا وعدما وفضلا وقدرا ودواما واستمرارا. مثاله: الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل المعروف، والأمر بالإيمان أفضل من كل أمر، والأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل، وتترتب فضائل الأمر على ترتب المصالح والمفاسد.
2-     المقاصد التبعية في الخطاب قد تكون مختلفة باختلاف الاجتهادات، ومناسبتها للحكم ليست لذاتها بل باعتبار تعلقها بمناسبة المقاصد الأصلية. فالمقاصد التابعة بمثابة القرائن المفسرة للمقاصد الأصلية؛ لأنها تتبعها تكملة لأحكامها، وترسيخا لمعانيها. وقد تختلف. الخلاف في كيفية تعلق المقاصد التبعية بالمقاصد الأصلية (مثل الخلاف في مسألة اشتراط المرأة عدم الزواج عليها) [فالجمهور] عدم لزوم الشرط؛ لأن فيه تحريم مباح، وفي الشرط تغيير لنظام الشريعة العام، وفيه معارضة لمقصد التعدد. أما [الحنابلة] يصح الشرط ويجب التزامه والوفاء به وإلا فلها الفسخ؛ لأن الشرط يعود على العقد بالنفع والفائدة ويخدم استدامة النكاح بالأولى وهذا مقصد شرعي. والراجح: صحته ولزومه. ولعل الآية تشير إلى أدب الاستطابة {ما طاب لكم} وهو وإن لم يكن قيدا يقيد الحكم إلا أنه ينبه على مراعاة ذلك الأدب، وكل ما أجازه الشارع بالأدب جاز اشتراطه في الحكم؛ لأن ما كان من مقتضيات العقد وتوابعه وآدابه كان صحيحا اشتراطه.
3-     المقاصد التبعية تتعلق بها أحكام الذرائع فتمنع إذا أفضت إلى إلغاء مقاصدها الأصلية أو ترتبت عليها مفاسد راجحة. وهو معنى القاعدة الفقهية (ما حرم سدا للذريعة فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة). مثال: يحرم النظر إلى الأجنبية لما يفضي ذلك إلى الفساد، فإن كان لأجل تحقيق مصلحة، كنظر الطبيب فيباح.
4-     المقاصد التبعية قد تتقاضاها أو تتنازعها عدة مقاصد أصلية. كمسألة تترس الكفار بالمسلمين وهل يجوز قتل الأسرى من المسلمين حينها؟ ففي عدم ضرب العدو مصلحة عدم قتل المسلمين حفظا لأنفسهم، وفي ضربهم حفظ لأنفس بقية المسلمين وديارهم ودينهم، فتردد الحكم.
 
 
مسالك الكشف عن المقاصد

أنواع المقاصد:
-          باعتبار محل صدورها:
o      مقاصد الشارع: الغايات المستنبطة من النصوص، تتمثل إجمالا في جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين.
o      مقاصد المكلف: الغايات التي يطلبها المرء من تصرفاته، قد توافق مقاصد الشرع فتُقبل، وقد تخالفها فتُرد.
-          باعتبار مدى الحاجة إليها:
o      مقاصد ضرورية. مقاصد حاجية. مقاصد تحسينية.
-          باعتبار عمومها في التشريع:
o      مقاصد [كلية] عامة: التي تراعيها الشريعة وتحققها في كل أبوابها أو كثير منها، كحفظ الكليات الخمس.
o      مقاصد [كلية] خاصة: تهدف الشريعة لتحقيقها في باب معين أو أبواب قليلة متجانسة، كمقاصد الشرع في البيوع كنفي الجهالة.
o      مقاصد جزئية: ما تهدف إليه الشريعة في كل حكم جزئي، كمقصود الطلاق: حد لضرر مستمر.
-          باعتبار حظ المكلف فيها:
o      مقاصد أصلية: مصالحها ملحوظة فوق الحظوظ الفردية، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة.
o      مقاصد تبعية: روعي فيها حظوظ المكلفين، مع صلتها بالمقاصد الأصلية، فهي خادمة ومكملة للأصلية. وشرط اعتبارها: ألا تعود على المقاصد الأصلية بالهدم والبطلان.
-          باعتبار قطعيتها:
o      مقاصد قطعية: تواترت على إثباتها أدلة كثيرة، أو منصوصة نصا قطعيا، كنصوص مقصد التيسير ورفع الحرج وإقامة العدل.
o      مقاصد ظنية: دل عليها دليل ظني، أو اختلفت فيها الأنظار، كمصلحة تطليق الزوجة من زوجها المفقود.
-          ولا توجد (مقاصد متوهمة)؛ لأن المقاصد لا بد أن تنسب إلى الشريعة إما قطعا أو ظنا. فالتوهم إنما يدخل على الوسائل لا المقاصد، أو أن تكون المقاصد متوهمة بالنسبة لمقاصد المكلف لا مقاصد الشرع.
حجية المقاصد
كلام الدكتور بمعناه: (والمقاصد أشمل من الظواهر، فيُعرف مقصود الشارع من اللفظ وغيره، كالسكوت في العبادات. فلا تحصر المقاصد في دائرة الألفاظ. بل يحتج بالمقصد المعلوم من غير اللفظ في تخصيص العموم، كالتخصيص بالسياق. ولا ينفرد جانب المعنى عن جانب اللفظ، بل يجمع بينهما).
خلافنا مع الظاهرية في حجة ربط الأحكام بالعلل والمصالح والمقاصد
فلنا أنها حجة، بالاستقراء والإجماع.
-          الاستقراء: استقراء الجزئيات الكثيرة الداخلة في معنى كلي، بالنظر في نصوص الشرع وأدلته الكلية والجزئية، وما فيها من المقاصد العامة والخاصة، إلى حد الاستقراء المعنوي الثابت بأدلة متضافرة يعضد بعضها الآخر، فينتظم بمجموعها أمر واحد تدل عليه، يفيد القطع واليقين.
فمن ذلك النصوص الدالة على أن مبنى الشريعة على المقاصد والمصالح:
o      النصوص في غاية بعث الرسل، تعليم الناس وإرشادهم وتزكيتهم مقصد مطلوب لأجله أرسل الله الرسل {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}.
o      النصوص الآمرة بالمصالح، والناهية عن المفاسد عموما: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}.
-          الإجماع: ثبت الإجماع على اجتهاد الصحابة في الرأي والاستنباط، ومن ذلك التعليل والقياس وتقصيد الأحكام.
واستدل الظاهرية:
-          بقول الله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون}، فلا يحق لأحد أن يعلل الأحكام، فالمطلوب ما يُفهم من النص بلا بحث عن علة أو قصد أو استعمال قياس، وأيضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم).
الرد: [ارجع إلى ص 43 من مسالك الكشف عن المقاصد].



مصادر الكشف عن المقاصد (المسالك الموضوعية):
1.      مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي
2.      علل الأحكام
3.      سكوت الشارع
4.      الكشف عن المقاصد التبعية عن طريق المقاصد الأصلية

مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي:
الأمر يقتضي فعل المأمور به، والنهي الكف عن المنهي عنه.
فوقوع الفعل عند ورود الأمر مقصد للشارع، والكف عن ورود النهي مقصود للشارع.
مثل: استخلاص مقصد حفظ النفس من قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}.
-       قيدت الأوامر والنواهي بكونها:
o      ابتدائية: جاءت ابتداء محضاً، وهي احتراز من التي قصد بها غيرها مما نزل على غيره من التشريعات، أو سيقت تبعا للأمر الأول.
o      تصريحية: على نحو صريح في الطلب، احتراز من كونها ضمنية غير مصرح بها، كالإشارات.
مثال: قال سبحانه {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فالسعي ابتدائي لأنه مقصود بنفسه، وترك البيع ليس ابتدائيا فليس مقصودا لنفسه وإنما هو تابع للسعي. فتحريم البيع تحريم وسائل لا مقاصد.
-       هذه الأوامر والنواهي متفاوتة في إبانتها عن مقاصدها، فبعضها تذكر مقاصدها وتعليلها بلفظ ظاهر، وبعضها يحتاج إلى بحث مسالك التعليل في إثباتها.

سكوت الشارع عن الحكم:
هذا متعلق بضربين من المسائل:
o      1) ما سكت عنه لعدم قيام مقتضيه زمن التنزيل: إذ لم تكن موجودة في حينه، كالنوازل، فهذا لا يستفاد منه مقصد.
o      2) ما سكت عنه مع قيام مقتضيه: فهذا كالنص، دال على ترك التشريع من قبل الشارع؛ إذ السكوت في معرض الحاجة بيان.
مثاله: الأذان المستحدث في العيدين، فقد كان المقتضي بنداء الناس للاجتماع قائما في زمن التنزيل، لكنه تُرك.


علل الأحكام:
قيدها وجوب أن ترقى العلة لمقام التفسير، فهي العلل القوية التي هي بمثابة القرائن المفسرة.


الكشف عن المقاصد التبعية عن طريق المقاصد الأصلية:
لا بد لفهم مقاصد الأوامر والنواهي التبعية والضمنية أن تكون دائرة في فلك المقاصد الأصلية وملتزمة بها. فما كان مقويّا للمقصد الأصلي الثابت بالنص ومقررا وخادما له، كان مصدرا تابعا له، وحينها يجوز استنباط مقاصد تبعية مقوية للمقاصد الأصلية من الأوامر والنواهي غير الابتدائية وغير التصريحية، ويجوز استنباطها من النص وإشارته.
-       مثال: النكاح، هو مشروع للتناسل على القصد الأول، ويليه طلب السكن والتحفظ من الوقوع في الحرام ... الخ، فجميع هذا مقصود للشارع من النكاح، فمنه منصوص عليه أو مشار إليه. ولهذا فإن النكاح لو قصد به معنى تبعي مع إهدار المقصد الأصلي، كالمتعة، فهو محرم، فقصد الاستمتاع هو أدنى مراتب مقاصد النكاح.
-       ومثل ذلك في المصلحة المرسلة، فما كان منها مقويا لمقصد أصلي، كانت مقصودة بالتبع له.
 

الأدوات المعينة في فهم مقاصد الشرع من النصوص (المسالك المنهجية):
1.      الاستقراء
2.      قرائن السياق والمقام
3.      معهود العرب
4.      مسالك التعليل

الاستقراء:
-       استقراء المقاصد على ثلاثة طرق:
o      1) استقراء ظواهر النصوص المصرحة بالمقاصد، كالتيسير ورفع الحرج {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
o      2) استقراء الأحكام المعروفة عللها: بحيث تكون هذه الجزئيات قد أثبتت عللها وفقا لبحث مسالك العلة المختلفة، ويتم استقراء العلل بذلك فتضبط بمقصد كلي يجمعها. مثال: مقصود إبطال الغرر في المعاوضات من: علة النهي عن المزابنة وهي الجهل بمقدار أحد العوضين بعد أن يجف الرطب، ومن مقصود نفي الخديعة في البيوع.
o      3) استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل اليقين بأن تلك العلة مقصودة في الشرع، كالنهي عن الاحتكار، والنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فيحصل العلم بأن رواج الطعام في الأسواق وتيسير تناوله للعامة مقصود للشارع.
o      4) استقراء تقصيدات الصحابة: فقد شهدوا التنزيل وأسبابه وهم أعلم بالبيئة التي فيها، فهم أفهم لنصوص الشرع ومقاصده، وهم متفاوتون في إدراك المقاصد لاعتبارات عدة. مثال تقصيد الصحابة: منع عمر صرف سهم المؤلفة قلوبهم لانقضاء زمن الحاجة لتأليف القلوب.

قرائن السياق والمقام:
-       النصوص الشرعية لغوية، تصدر من الشارع مستخدمة أساليب التعبير المعهودة المفهومة في اللغة، محكومة بضوابطها حتى يصل إلينا المقصود من الخطاب.

معهود العرب:
-       الكتاب والسنة بلسان عربي لا عجمة فيهما، ومعهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها. ففهم معهودهم في الخطاب مهم لمعرفة المقصد.
مسالك التعليل:
-       من خلال البحث في مسالك العلة، ولا سيما مسلك المناسبة، مع ما ثبتت علته من خلال النص ظاهرا أو إيماءً.
-       معرفة علة الحكم تكون سببا في معرفة موضع انتفاء هذا الحكم وموضع تحققه.



الوسائل

(الوسيلة) لغة: المنزلة والدرجة والقُربة.
اص: معنى عام ومعنى خاص:
-       المعنى العام: الأفعال التي يتوصل بها إلى تحقيق المقاصد.
مثل: الجهاد حفاظا على الدين، والقصاص حفاظا على الأمن.
-       المعنى الخاص: الأفعال التي لا تقصد لذاتها، بل تقصد من أجل أشياء أخرى تؤدي إلى المقاصد.
ففي ذاتها لا تتضمن مصلحة أو مفسدة.
مثال: (السعي)، السعي إلى صلاة الجمعة مصلحة، والسعي إلى أماكن الفساد مفسدة.
فتأخذ الوسائل حكم المقاصد.

الفرق بين الوسيلة والذريعة:
                الوسيلة: هي أسباب المقاصد وطرقها وذرائعها. فهي عامة. الذريعة: المباح المؤدي إلى الحرام.

العلاقة بين الوسائل والمقاصد:
1-     شرف الوسائل من شرف مقاصدها، وبعض المقاصد متوقفة على تحقيق وسائلها.
2-     حكم الوسائل حكم مقاصدها إن لم تكن الوسائل لها أحكام في ذاتها. ويستثنى ما تقتضيه الضرورات الخاصة أو الحاجات العامة، مثل: التلفظ بكلمة الكفر كرها مع اطمئنان القلب بالإيمان، ومثل التولي يوم الزحف إذا تيقن مقتله بلا نكاية بالعدو.
3-     تفاضل الوسائل بتفاضل مقاصدها، فالوسائل في نفسها متفاوتة في الأداء والثواب أو العقاب. مثل: التوسل إلى معرفة الله تعالى وصفاته، أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه. والتوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبة أفضل من التوسل بالسعي إلى صلاة الكسوف.
4-     سقوط الوسائل بسقوط مقاصدها، بمثابة الأسباب والعلل مع مسبباتها وعللها، تدور معها وجودا وعدما. كمن فاتته الجمعة سقط عنه السعي إليها.
5-     ثبات المقاصد وتغيّر الوسائل؛ لأن المقاصد كليات، فلا بد من ثباتها، كالأذان. والوسائل جزئيات، فتتغير، كالأذان باستخدام الميكرفون.



من خاتمة ملف الوسائل:
1-     علاقة الوسائل بالمقاصد علاقة عضوية؛ فلا يمكن إعمال الوسائل دون اعتبار المقاصد، ولا يمكن تحقيق المقاصد دون اعتماد الوسائل؛ فالمقاصد ترتكز في تنفيذها على الوسائل، والوسائل تتوقف في اعتبارها على المقاصد.
2-     إذا كانت الشريعة لا تخرج في مجموع أحكامها عن المقاصد والوسائل، فلا بد من العناية بهما معا، وأن لكل منهما قيمته وأهميته.
3-     لا ينبغي الاهتمام بالمقاصد على حساب الوسائل، ولا العكس؛ لأن كلا منهما مقصود بقدر ما يحقق من مقاصد الشارع، ويحفظ من مصالح الإنسان.
4-     لا يمكن لأي مقصد أن يتحقق على مستوى الواقع العملي دون وسائل. ولا يمكن لأية وسيلة أن تعتبر متى عادت بالفساد على مقاصد الشارع ومصالح الإنسان.



تعارض المصالح

الجانب الأول: النظر إلى قيمة المصلحة، وترتيبها من بين الكليات:
1-     أولا: حفظ أصل الدين، فلا تباح الردة بأي وجه من الوجوه ولو تعارضت مع حفظ النفس، وأما النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان فمن باب سقوط المكملات للحفاظ على الأصل.
وحفظ الدين يجب أن يكون غالبا ومحققا حتى يقدم على حفظ النفس، فكان الجهاد في أول أمره ممنوعا.
2-     من حيث جلب المصلحة: حفظ النفس ثم العقل ثم النسب ثم المال ثم العبادات.
3-     من حيث درء المفسدة: حفظ النسب ثم النفس ثم العقل ثم المال ثم العبادات.

فمن حيث جلب المصالح: يقدم حفظ النفس على العرض:
كنظر الطبيب إلى عورة المريض لأجل التداوي، على ألا يتجاوز موضع الحاجة. وللمرأة مراجعة طبيب ماهر مع وجود طبيبة غير ماهرة. ومس عورة الغير أو النظر إليها لإنقاذه من غرق أو هدم، ونحوهما. ونظر الخاتن إلى العورة.

ومن حيث درء المفاسد: يقدم حفظ النسب على النفس:
فلو أكره بين القتل والزنى، لم يجز الزنى. لاجتماع مفاسد الزنى من إضاعة النسل وقتل النفس وهتك العرض أمام مفسدة قتل نفسه.
وتحريم الزنى من باب حفظ النسب والنسل أصالة، وأما حفظ العرض فهي فيه تبع.

تقديم حفظ النفس على حفظ العقل: كمن غصّ بلقمة ولم يجد غير الخمر.

تعارض حفظ النفس مع حفظ العقل: كالتداوي بالمخدِّرات والكحول.

حفظ المال: يقدم ما غلب فيه حق الله على حق الخلق. كأموال الأوقاف واليتامى على حفظ الأموال الخاصة.



تأخير حفظ التدين والعبادات:
لماذا أخر حفظ العبادات والتديّن؟ لأن زمان فواتها محدود، وتعويضها ميسور، فقد شرع فيها القضاء، وهي حق محض لله تعالى، والله سبحانه لا يضره فوات حقه.
وأما سائر الكليات: ففواتها غالبا لا يعود بالتعويض، ويقع فيها الضرر والمشقة.
فيقدم إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق على صلاة الجمعة.
ويعذر عن حضور الجمعة من خاف على نفسه أو ماله.

تقديم حفظ التدين والعبادات على الأخلاق عند التعارض:
فلو منعه والده عن الصلاة المفروضة، فلا تجوز طاعته، ولا تقدم على ترك العبادات المفروضة.


الجانب الثاني: النظر إلى مرتبة المصلحة:
فيقدم الضروري على الحاجي، والحاجي على التحسيني.
وتقدم أصل المصلحة على فروعها ومكملاتها.
كالمضطر لأكل الميتة، فيقدم حفظ النفس بأكل الميتة على المقصد الحاجي (الأكل الحلال).
ومثال تعارض المكمل مع مقصده: الصلاة قاعدا لغير المستطيع.
والمقصد الكلي مع مكمل مقصد آخر: لو خاف راكب السفينة أن يغرق أو دوران رأسه جاز له الصلاة قاعدا.

الجانب الثالث: النظر إلى قيم المصالح من حيث مقدار شمولها:
فالكلي مقدم على الجزئي، والمصلحة العامة مقدمة على الخاصة، وما يتعلق بالأمة مقدم على ما يتعلق بطائفة معينة، وما يتعلق بالجماعة مقدم على ما يتعلق بالأفراد.
كترجيح انشغال العالم بنشر علمه للملأ على الانشغال بنوافل العبادات.

تقديم المصلحة الواقعة على المصلحة المتوقعة:
فيقدم إطعام اليتامى وكسوتهم (حاجة واقعة) على التجارة بمالهم (حاجة متوقعة).
وغالبا عند تقديم المتوقعة على الوقعة، يقع فساد بسبب هذا التقديم.
فلا ترجح المصالح الموهومة أو المشكوكة، مهما كانت قيمتها أو شمولها، على مصلحة مقطوعة الحصول أو مظنونة. ولا تقدم المصلحة المتوقعة على الواقعة.



اعتبار المآلات

(الاعتبار) الاعتداد بالشيء.
(المآل) لغة: المرجع والعاقبة.
                اص: النظر إلى مقدمات التصرفات، بالنظر إلى نتائجها.
الأحكام في اعتبار المآل واقعة بالاقتضاء التبعي لا الأصلي.
مثال: تحريم بيع العنب لعاصره خمرا.
فالاقتضاء الأصلي: ينظر إلى أصل المبيع، فهو عقد صحيح، بغض النظر عن التوابع.
وأما الاقتضاء التبعي: فتراعى فيه المقاصد والأحوال، فإن تيقن أو غلب على الظن استخدامه لأجل تخميره، حينئذ يحكم بتحريم بيعه؛ لإفضائه إلى مفسدة.
فحرمة البيع ليست أصلية؛ لأنها منفكة عن العقد، لكنها واقعة بالتبعية بسبب الإفضاء.

مثال: الميتة.
فالاقتضاء الأصلي: بحسب العادة الجارية، فإنها مستقذرة، وفيها أذى ظاهر؛ لهذا تعلقت الأحكام الأصلية بهذا الاقتضاء.
والاقتضاء التبعي: كون الميتة مادة من المواد قابلة للتحول، وهذا الوصف تبعي.

شروط وضوابط اعتبار المآل:
1-     ترجيح كفة الأقوى، مع مراعاة قاعدة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح. فعلى قدر الجزم في الحكم الأصلي يكون الجزم في الحكم التبعي.
2-     مراعاة قاعدة موافقة قصد المكلف في عمله لمقاصد التشريع.
3-     أن يكون الأمر المتوقَّع مضبوط المناط والحكم.
4-     ألّا يوقع إعمال المآل فيما هو أعظم منه مفسدة أو أقل منه مصلحة. مثل: تعذيب المتهم.

درجات مآلات الأفعال:
-       قطعية الإفضاء، فيؤخذ بها اتفاقا.
-       نادرة الإفضاء، فتترك اتفاقا.
-       ظنية الإفضاء، وفيها خلاف.


قواعد متفرعة من قاعدة اعتبار المآل (تطبيقات اعتبار المآل):
1-     سد الذرائع وإبطال الحيل.
أن يكون الفعل مشروعا في الأصل، لكنه يؤدي إلى مآل ممنوع، فيُمنع.
2-     فتح الذرائع.
أن يكون الفعل مسكوتا عنه، مباحا، لكنه يؤدي إلى مصلحة راجحة، أو يكون حكم منعه بالاقتضاء التبعي ذد زال فيحكم بمقتضى ما يفضي إليه؛ تحصيلا للمصلحة.
3-     الاستحسان.
أن يكون الفعل ممنوعا في الأصل، لكنه يؤدي إلى مصلحة راجحة تفوق مفسدته، فيباح؛ تحصيلا لما يؤول إليه.
4-     مراعاة الخلاف.
أن يكون الفعل مختلفا في حكمه، لكنه يفضي إلى مصلحة معتبرة، فيجيزه من رجّح منعه، آخذا بأدلة المخالف لتحصيل تلك المصلحة. أو أن يقع الفعل المختلف فيه من المكلف، فيمضيه عليه المجتهد المانع لحكمه، آخذا بدليل المخالف.

الأوصاف التي بها يُعرف الأصلي والتبعي:
-       نصوص الشارع: فالمطلق يكون داخلا في المقيد، مع جعل المطلق اقتضاء تبعيا.
مثل: (من جر ثوبه خيلاء) مع قوله (ما أسفل الكعبين)، فيحمل المطلق على المقيد مع عدم إهمال المطلق.
-       حين يكون أحد الوصفين أقرب إلى القياس من الآخر، نجعل الأقرب اقتضاء أصليا، والثاني تبعيا.
مثل: تحريم أكل الميتة المنخنقة، مع قوله عليه السلام (ذكاة الجنين ذكاة أمه).
-       ...



مراعاة الخلاف
لغة: نظر الفقيه إلى دليل مخالفه بالاعتبار.
اص: أن يأخذ المجتهد بدليل مذهبه، ويبني عليه ما يلزم من دليل المخالف، أو يتبعه في هذه الجزئية، ترجيحا للمآل، ورفعا للحرج، لا سيما بعد وقوع النازلة، أو احتياطا قبل وقوعها.
مثال: نكاح الشغار
هو فاسد عند [مالك] ويجب فسخه، ويلزم منه عدم التوارث؛ لأنه عقد غير صحيح.
وعند [أبي حنيفة] صحيح، مع الكراهة، ويلزم منه ترتب الآثار الشرعية على العقد، ومنها الميراث.
فأخذ مالك بدليله في فساد العقد وفسخه، لكن لم يبن عليه ما يلزم مذهبه، وإنما بنى على ما يلزم من مذهب أبي حنيفة الذي صحح العقد وأجرى التوارث.
دليل اعتبار مراعاة الخلاف والجمع بين الدليلين: قصة سودة وزمعة، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم النسب لزمعة، ويلزم من ذلك جواز رؤيته لسودة كونها أخته، لكنه أمرها بالاحتجاب منه مراعيا دليل المقابل وهو الشبه بعتبة بن أبي وقاص، فأعمل لازم مدلوله.

شروط مراعاة الخلاف:
1-     أن يكون دليل المخالف معتبرا. فلا يلتفت إلى الآراء الواهية والشاذة كبطلان الصوم في السفر.
2-     أن يوجد مسوِّغ شرعي لمراعاة الخلاف. كالأخذ بالأحوط أو التيسير ورفع الحرج عند الحاجة.
3-     ألا يخالف سنة ثابتة. كمن خالف النصوص الثابتة في صفة صلاة الكسوف بأنها كبقية السنن.
4-     ألا يؤدي الخروج من الخلاف إلى صورة تخالف الإجماع. كغسل الأذنين مع الوجه في الوضوء ومسحهما مع الرأس، جمعا بين القولين المختلفين، فهذه صورة على خلاف الإجماع.

الفرق بين مراعاة الخلاف والخروج من الخلاف:
-       مراعاة الخلاف: انفرد به المالكية. وهي قاعدة أصولية عندهم.
الخروج من الخلاف: قال به الجميع. وهي قاعدة فقهية عندهم.
-       مراعاة الخلاف: غالبا تكون بعد الوقوع.
الخروج من الخلاف: قبل الوقوع.
-       مراعاة الخلاف: غالبا توظف في التيسير ورفع الحرج.
الخروج من الخلاف: لا يوظف إلا في الأخذ بالأحوط.

مثال الخروج من الخلاف: عند الشافعية: استحباب الدلك في الطهارة، مراعاة للمالكية. واستيعاب مسح الرأس خروجا من خلاف المالكية والحنابلة، والترتيب في قضاء الصلوات، مراعاة للجمهور.


[1] المعاني المستفادة من نظم الكلام، وتشمل النص والظاهر.
[2] الظاهر: دل على معناه ولم يسق لأجله النص، والنص: سيق لأجله.
[3] ما ثبت بنظم الكلام لغة، لكنه غير مقصود ولا سيق له النص.
[4] أو (دلالة النص)، وهو كون المسكوت عنه موافقا للمنطوق، نفيا وإثباتا.
[5] أو (دليل الخطاب)، وهو دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دل عليه المنطوق، لانتفاء قيد معتبر في الحكم.
[6] فالأصل: الواقعة المنصوص على حكمها.            الفرع: الواقعة الطارئة المراد إلحاقها بالأصل في الحكم.           الحكم: حكم الأصل الذي ورد به الفرع.                   العلة: الوصف الجامع بين الفرع والأصل.