ملخص القياس والتعليل
تعريف
القياس
o لغة: التقدير والمساواة.
o اص: إلحاق فرع بأصل، في
حكم، لعلة جامعة بينهما.
وهذه العلة الجامعة لا بد لها أن تكون مدركة
عن طريق الاجتهاد لا اللغة، فإن كانت عن طريق اللغة فلا تثبت بالقياس وإنما
تثبت بدلالة النص أو مفهوم الموافقة.
o
فالقياس
مكوّن من أربعة أركان: الفرع والأصل والحكم والعلة الجامعة.
مثاله: قال
سبحانه {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
وذروا البيع}، فهذا نهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وعلة النهي هي الاشتغال عن
الصلاة، وهذا المعنى موجود في غير البيع فيأخذ حكمه.
حجية القياس [ص207]
اختلف
الناس في القياس على قولين إجمالا: (حجة وليس بحجة)
1- حجة [عامة العلماء]
أدلتهم:
-
قال
سبحانه {فاعتبروا يا أولي الأبصار}، وحقيقة الاعتبار مقايسة الشيء بغيره.
-
أمر
الله عباده عند التنازع برد المتنازع فيه إلى الله ورسوله، وهذا رد شيء متشابه إلى
شيء محكم، فيلحق النظير بنظيره، وما تشابه منها فيلحق بأقربها شبها، ولا يتحقق ذلك
إلا بالاشتراك في العلة، فيكون قياسا.
-
قال
عليه السلام لعمر عندما قبّل وهو صائم: (أرأيتَ لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟)، قاس
رسول الله صلى الله عليه وسلم القُبلة على المضمضة بجامع أن الكل مقدمة للفطر.
(تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم)
-
إجماع
الصحابة، كما حكموا بالإمامة العظمى لأبي بكر قياساً على إمامته الصلاة نيابة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير. (تطبيق الصحابة رضي الله عنهم).
-
عقلا:
نصوص التشريع محدودة ومتناهية، وما يستجد من قضايا الناس مستجد غير محدود، فلا
يعقل أن يكون المتناهي مصدرا تشريعيا لما لا يتناهى، فكان لا بد من مصدر خارج عن
النصوص يكشف عن أحكام الوقائع المتجددة، فهو الاجتهاد إذن، وعلى رأسه القياس، الذي
فيه رد النظير إلى نظيره وتسويته معه في حكمه.
2- ليس حجة [النظّام وبعض المعتزلة، الظاهرية]
أدلتهم:
-
القرآن
تبيان لكل شيء، ولم يفرط الله فيه شيئا.
(رد: هذا البيان إجمالي،
والقياس عمل بمعنى النص، وهو راجع إليه، وليس في القرآن تحريمه)
-
نهينا
عن اتباع الظن {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} والقياس ظن مجتهد
(رد: سياق الآية في الأحكام
الاعتقادية التي يطلب لها العلم اليقيني)
-
روي
عن الصحابة ذم الرأي والعمل به، والقياس منه.
(رد: المعني هو الرأي الفاسد،
كالقياس المخالف للنص أو المبني على الجهل، لأن الصحابة أجمعوا على العمل بالرأي
والاجتهاد فيما لا نص فيه).
هل
القياس دليل عام؟ [ص216]
-
يقوم
القياس على إدراك علة الحكم الثابت بالنص.
-
من الأحكام ما لا تدرك عللها ولا تحدد عقلاً، وهي أربعة أصناف وقع في
تفاصيلها خلاف:
o العبادات.
o الحدود والكفارات والمقدرات.
o الأحكام الوضعية.
o الرُخص والمستثنيات من القواعد.
-
اتفقوا: أن كل ما لا يعقل معناه لا يجري فيه
القياس.
-
اتفقوا: أن كل ما يمكن للعقل إدراك علته يجري
فيه القياس.
-
والخلاف جاء من أمرين:
o
اختلاف
النظر داخل الأنواع، فقد يُنظر إلى نوع من ناحية، فيحكم
بمعقولية معناه، فيجري فيه القياس، وهكذا.
o الاختلاف فيما يطلق عليه القياس.
-
وبناء
على خلافهم السابق، اختلفوا في تقسيماتهم للقياس.
-
إذن، ليس دليلا عاماً كالكتاب والسنة،
وهذا القدر متفق عليه. وإن الخلاف إنما هو في التطبيق، فيجري في نوع دون الآخر لإمكانه فيه، بينما يمنعه الآخرون
لوجود المانع.
أنواع
القياس [ص218]
o عند الحنفية:
1. جلي:
ما يتبادر إلى الذهن في أول الأمر.
2. خفي:
ما لا يتبادر إلى الذهن إلا بعد التأمل.
o عند الشافعية
[أولاً: باعتبار قوة القياس في
ذاته]
1. جلي:
ما علم فيه نفي اعتبار الفارق بين الأصل والفرع.
كقياس المرأة على الرجل فيما يشتركان فيه من الأحكام.
2. خفي:
ما ظن فيه نفي اعتبار الفارق.
كقياس النبيذ على الخمر في
حرمة القليل منه؛ لتجويز اعتبار الفارق بينهما لخصوصية في الخمر وهو أنه حرم
قليلها لنجاستها العينية أو لأن قليلها يدعو إلى كثيرها.
[ثانياً:
باعتبار قوة العلة]
1. أولوي:
حكم الفرع أولى من الأصل. بأن تكون علة الفرع
أقوى.
كضرب الوالدين أولى بالمنع
من التأفيف. وتحريم كثير الشيء أولى من قليله (كالخمر).
وهذا النوع متفق على
اعتباره، ووقع الخلاف في تسميته بين: قياس الأولى، ودلالة النص ومفهوم الموافقة.
2. مساوي:
حكم الفرع مساو للأصل. عند التساوي في العلة.
كقياس المرأة على الرجل في
وجوب كفارة الجماع في نهار رمضان. وقياس إحراق مال اليتيم على أكله المنصوص في
الآية.
وهذا النوع مختلف في
اعتباره، ووقع الخلاف في تسميته بين من يعتبره: فمنهم ما قال هو قياس، ومنهم من
قال هو قياس بشرط كون العلة لا تدرك إلا بالاجتهاد، وأما إن كانت تدرك عن طريق فهم
اللغة فليس قياساً، وإنما هو: دلالة نص.
3. أدنى:
حكم الفرع أضعف من الأصل. بأن تكون علة الأصل
أقوى.
إن كانت العلة فيه [القدر
المشترك بين الأصل والفرع] فهو من قبيل المساوي.
وإن كانت العلة هي الوصف
الآخر في الأصل، فلا قياس.
الخلاصة: القياس الصحيح إما أولوي أو مساو.
والمساوي
إن قطع فيه بالتساوي كان كالأولوي، ولا خلاف في العمل بالأولوي، وإن اختلفوا في
تسميته.
وعند الحنفية: إن كانت العلة تفهم عن طريق اللغة بلا
اجتهاد، فهذا يلحق بدلالة النص، سواء كان أولويا أو مساويا. وإن كانت تفهم عن طريق
الاجتهاد كان قياساً، أولويا أو مساويا.
أركان
القياس [221]
1- الأصل (المقيس عليه والملحق به): الواقعة
التي ثبت حكمها بالنص أو الإجماع. [الخمر]
2- الفرع (المقيس والملحق): الواقعة
التي يراد معرفة حكمها. [النبيذ]
3- حكم الأصل،
الذي يكون الإلحاق فيه. [التحريم]
4- العلة الجامعة، التي من أجلها ثبت الحكم في الأصل. [الإسكار]
وأما حكم الفرع فهو ثمرة القياس.
- وقال الحنفية: ركن القياس هو العلة. يريدون أن العلة هي
الركن الأهم الذي يحقق المساواة في الخارج بالفعل.
- وفرق بين [حقيقة القياس] وبين [أركان القياس]: فحقيقته
هي الإلحاق أو المساواة في العلة أو الحكم، أو التعدية. وأركان القياس هي التي لا
يتحقق إلا بعد وجودها.
شروط
صحة القياس [222]
1. أن يكون حكما: شرعياً، عملياً، ثابتاً بنص
أو إجماع.
2. ألّا يكون منسوخاً.
3. أن يكون معقول المعنى.
4. ألّا يكون الحكم مختصاً بالأصل.
[1. أن يكون حكما شرعيا عمليا ثابتا بنص أو إجماع]
- فلو لم يكن للأصل المقيس عليه حكم ثابت بدليل معتبر فلا
يتصور القياس.
-
(ثابت بالنص)
لا خلاف في تعديته بالقياس واعتباره، متى ما
توافرت بقية الشروط.
-
(ثابت بالإجماع)
خلاف: على رأيين:
o الأول:
لا يعدى بالقياس؛ لأن الإجماع لا يذكر معه مستنده من النصوص غالباً، فلم يمكن معرفة
علة الحكم المجمع عليه، حينها يتعذر القياس.
o الثاني:
يصح تعديته بالقياس؛ لأن الإجماع دليل شرعي كالكتاب والسنة، فيأخذ حكمهما متى ما
عقلت علته. وإن عدم ذكر مستنده لا يمنع من معرفة العلة؛ لأن العلة إما
منصوصة أو مستنبطة. فإذا عرف الحكم بالإجماع أمكن البحث في محله عن معنى يلائمه
ويناسبه فيكون هو العلة.
-
(ثابت بالقياس)
الأصح أنه لا يعدى بالقياس، فلا يكون الفرع أصلاً لقياس ثانٍ؛ لأن العلة في القياسين إما أن تكون متحدة أو مختلفة:
o إن كانت متحدة، فلا فائدة في القياس الثاني؛ لإمكان القياس على الأصل الأول للمساواة
بينهما.
o وإن كانت مختلفة، كان القياس الثاني باطلاً لعدم اتحاد العلة الذي هو شرط صحة.
[2. ألا يكون منسوخا]
-
لأن الحكم المنسوخ أبطل الشارع العمل به،
فبطلت علته، وإذا بطلت العلة انتفى الجامع بين الأصل والفرع، وهو مدار القياس، على
أن تعدية الحكم المنسوخ إعمال للقياس في مقابلة النص الناسخ، وهو باطل.
[3. أن يكون معقول المعنى]
- بأن يدرك العقل علته؛ لأن أساس القياس علة
يقف العقل عليها، لتعدية حكمها إلى محالها، فإن لم
يمكن ذلك امتنع القياس.
- والأحكام إما تعبدية أو معقولة المعنى، فالتعبدية ككون صلاة الفجر ركعتان، ومقادير الزكاة، ومقادير
الحدود والكفارات، إلى غير ذلك. وأما معقولة
المعنى فهي
التي أرشد العقول إلى عللها إما بالنص أو بنصب الأمارات الدالة عليها، وهذا الذي يجري فيه القياس، يستوي فيه الأحكام
المشروعة ابتداء بالاتفاق، والأحكام المستثناة من أصل كلي أو قاعدة عامة على خلاف
بين أهل العلم.
- المشروع ابتداء مثل: تحريم الخمر، ومنع القاتل من الميراث.
-
المستثنى من أصل عام مثل: بيع العرايا، أن يبيع الرطب على رؤوس النخل بتمر خرصا،
تخمينا من غير كيل ولا وزن. والأصل العام الذي استثني منه هو شرط التساوي في بيع
الشيء بجنسه، فقد نهي عن بيع الرطب بالتمر، واستثني في العرايا لحاجة الناس، وذلك
بنص الحديث. إذن، يصح بيع العنب على الشجرة بما يساويه من الزبيب خرصا، قياسا على
ما جاء في النص، لتحقيق العلة المبيحة للعرايا وهي حاجة الناس ودفع الحرج عنهم.
[4. ألا يكون هذا الحكم مختصا بالأصل]
- لأن اختصاص الحكم بمحلٍ مانعٌ من تعديته إلى غير هذا
المحل، والاختصاص يثبت بأحد أمرين:
(اقتصار العلة على حكمها، واختصاص الحكم بمحله):
1. اقتصار علة الحكم عليه، فلا توجد في غيره. فلا اشتراك في العلة القاصرة؛ لأن القصر مانع.
مثال: قصر الصلاة الرباعية للمسافر، الثابت بالنص {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة}؛ فإن العلة هي السفر، وهو وصف قاصر على المسافر دون
غيره، فامتنع قياس غيره عليه.
فالعلة القاصرة هي: السفر؛ لأنه لا يعدى إلى غيره.
ومثله أيضا: المرض في قصر الصلاة.
ومثل: علة المسح على الخفين، التي هي التيسير ورفع الحرج، هي علة قاصرة على
الخفين لا توجد في غيرهما ولا يتعدى الحكم إلى القفازين مثلاً.
2.
عدم اقتصار علة الحكم عليه، ولكن وجد دليل على اختصاصه بمحله، كالخصوصيات الثابتة في الشريعة، فلا تثبت
لغير من ثبتت له، سواء عقلت معناها أم لا؛ لأن تعدية هذه الأحكام
بالقياس يجعله باطلا، لمخالفته النص المخصص؛ لأن من شروط القياس ألا يكون في
مقابلة النص. مثال الخصوصيات: ما اختص به
النبي صلى الله عليه وسلم، كعصمته على أكثر من أربع نساء، وتحريم الزواج
بأمهات المؤمنين من بعده. واختصاص خزيمة بن ثابت
بقبول شهادته وحده عن شهادة رجلين؛ (من شهد له خزيمة فهو حسبه).
شروط
الفرع [232]
1. أن يكون مساوياً للأصل في علة حكمه.
2. ألا يكون فيه معارض راجح أو مساو لعلة
الأصل.
3. ألا يكون منصوصاً أو مجمعاً عليه بما يخالف
القياس.
[1. أن يكون الفرع مساويا للأصل في علة حكمه]
لأن تعدية حكم الأصل للفرع تسوية بينهما في الحكم بناء على تساويهما في
العلة، فإذا لم تتحقق المساواة في العلة انتفت المساواة في الحكم.
والقياس الذي يكون مبناه على اختلاف العلة يسمى:
قياساً مع الفارق.
مثاله[1]: قول بعضهم: " تجب الزكاة في مال الصبي؛
قياساً على مال المكلف بجامع: أن كلاً منهما يملك ماله" فإن هذا لا
يصح، لأنه قياس مع الفارق، حيث إن علة حكم الأصل تختلف عن علة الفرع؛ حيث إن علة الأصل
- وهو البالغ - هي أنه يملك ماله بالقوة والفعل، أما علة الفرع - وهو الصبي - هي:
إنه يملك ماله بالقوة فقط.
[2. ألا يكون في الفرع معارض راجح أو مساو لعلة الأصل]
وذلك بأن يكون فيه ما يقتضي حكماً غير حكم الأصل إلحاقاً له بأصل آخر. ولو لم يشترط فيه ذلك لترتب عليه: إما عمل بالمرجوح مع وجود الراجح، أو
ثبوت التحكم عند تساوي القياسين، وهما باطلان.
[3. ألا يكون منصوصاً أو مجمعاً عليه بما يخالف القياس]
لأنه يكون حينئذ معارضاً للنص أو الإجماع، وهذا باطل.
مثال
المخالف للنص: قياس
كفارة اليمين، على كفارة القتل الخطأ، في عدم إجزاء عتق العبد الكافر فيها، بجامع
أن كلا منهما كفارة ذنب. فآية القتل فيها شرط الإيمان، وأما كفارة اليمين
فنصها مطلق، وهذا النص المطلق يمنع القياس على كفارة القتل الخطأ.
مثال
المخالف للإجماع: كما لو
قيل إن المسافر لا يجب عليه الصوم {فعدة من أيام أخر}، إذن لا تجب عليه الصلاة،
قياسا على الصوم. وهذا باطل، لمخالفته الإجماع.
العلة [232]
هي
الجامعة بين الأصل والفرع، التي من أجلها شرع الحكم في الأصل، وهي أهم ركن في
القياس؛ لأن مداره عليها.
(العلة)
لغة: اسم لما يتغير الشيء بحصوله.
اص: تطلق على ثلاثة أمور:
1- المعنى المناسب لشرعية الحكم. وهو: ما في الفعل من نفع أو ضرر، ويسمى (الحكمة).
2- ما يترتب على تشريع الحكم وامتثاله من
ثمرة ومصلحة، هي جلب منفعة أو دفع مضرة. ويسمى (المصلحة أو مقصد
الشارع)، وقد يسمى (حكمة) أيضاً.
3- الوصف الظاهر المنضبط الذي ربط الشرع
الحكم به، وجعله أمارة عليه يوجد بوجوده ويعدم بعدمه
[اتفقوا على جواز التعليل به].
هذه الثلاثة (المعنى المناسب، والأمر الظاهر، والمصلحة المقصودة) توجد في
كل حكم شرعي متعلق بأفعال المكلفين: كوجوب القصاص:
حيث ربطه الشارع بـأمر ظاهر وهو: [القتل العمد العدوان] يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه.
والقتل فيه [مفسدة ضياع النفوس]، وهذا المعنى المناسب لشرعية الحكم، ومن أجله جعل القتل علة للقصاص، ولكنه ليس ظاهراً، بل هو أمر
خفي لا يعلم إلا بالقتل.
ويترتب على تشريع القصاص [حفظ النفوس] وهو الباعث على التشريع وهو مقصوده.
فالأصوليون يطلقون لفظ العلة على الثلاثة إطلاقاً حقيقياً بطريق الاشتراك،
أو حقيقياً في البعض مجازاً في الآخر، ولكنهم يقصرون
التعليل على الأوصاف الظاهرة، ويمنعون التعليل
بالحكمة، أو يجوزونه ويدّعون عدم وقوعه مع اعترافهم بكون الحكمة هي العلة على
الحقيقة، وأن الوصف الظاهر لم يجعل علة إلا
لكونه تبعاً للحكمة؛ لأنه ضابط لها. وسبب ذلك: أنهم أرادوا ضبط الأقيسة المنقولة عن أئمتهم بضوابط عامة لا
تضطرب ولا تختلف، فلا يشذ عنها فرق من الفروع المقررة في مذاهبهم.
فقرروا أن الأحكام الشرعية تدور مع عللها وجوداً وعدماً،
سواء وجدت الحكمة أم لم توجد، فتخلفها لا يؤثر في الحكم.
مثال ذلك: قصر الصلاة، يثبت بعلة [السفر] وإن
لم توجد حكمته التي هي [المشقة]، وينتفي بانتفائها وإن وجدت المشقة.
·
بناء على ذلك، عرّفوا العلة بأنها:
الوصف الظاهر المنضبط، الذي يترتب على شرع الحكم عنده
تحقيق مصلحة.
·
وهذا المعنى يطلق أيضا على ركن القياس:
المعنى الذي من أجله شرع الحكم، ويجمع بين الأصل والفرع.
·
ويطلق أيضاً على:
ما وضعه الشارع من أسباب المشروعات، كالسرقة الموضوعة
لوجوب قطع اليد، والقتل العمد العدوان الموضوع لوجوب القصاص.
أسماء العلة في اصطلاح العلماء:
- (مناط الحكم) لأن
الشارع ربط الحكم وعلقه عليها.
-
(السبب) لأن الحكم يوجد بوجودها.
-
(المؤثر) و(المقتضى)
و(الأمارة) و(الباعث)
و(الداعي).
أسباب الاختلاف في تعريف العلة:
الاختلاف
في مأخذ العلل الشرعية، أهو العلل العقلية، أم علة المرض؟ واختلافهم في المذاهب
الكلامية في مسألة أفعال الله تعالى وأحكامه، أهي معللة أم غير معللة؟
فمن
أثبت التعليل: عرفها بكونها مؤثرة في الحكم بجعل الله، أو أنه الداعي إلى شرعه.
ومن
نفاه، عرفها بأنها المعرف للحكم، أو ما جعله الشارع أمارة عليه.
موقف
الأصوليين من تعليل الحكمة [236]
اختلفوا
على ثلاثة مذاهب:
1- منع التعليل بالحكمة مطلقاً؛ لأنها خفية غالباً، كـ(الحاجة) في إباحة البيع، فلا يمكن التحقق منها في
كل عقد. ولأنها غير منضبطة غالباً، كـ(المشقة) في إباحة الفطر في السفر، فإنها تختلف
باختلاف الأشخاص والأزمان. إذن، لا يصح إناطة الحكم بها
لخفائها واضطرابها، فلا يمكن التحقق من حصلوها، فلا بد أن تكون العلة أمراً ظاهراً
منضبطاً مشتملاً على الحكمة.
2- جواز التعليل بها مطلقاً؛ لأن الحكمة هي العلة، والوصف الظاهر المتفق
عليه لم يكن علة إلا تبعاً لتلك الحكمة، فإذا صح التعليل بالتابع، صح التعليل بالمتبوع.
3- التفصيل،
ففرق بين الحكمة الظاهرة المنضبطة وبين الخفية غير
المنضبطة:
فالظاهرة المنضبطة: يصح التعليل بها؛ لانتفاء المانع. وأما الخفية غير
المنضبطة: فلا يصح، لقيام المانع.
جواز التعليل بالحكمة والمصلحة من خلال الكتاب والسنة، وما روي عن السلف، والأئمة،
والفقهاء:
من كتاب الله تعالى:
- في حكمة الإعداد للجهاد: {وأعدّوا لهم ما
استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
- في حكمة الزكاة ومصلحتها: {خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.
- في مفاسد الخمر والميسر: {إنما يريد
الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر
الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}.
من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- في تعليل النهي عن الجمع بين المرأة
وعمتها، أو خالتها: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم).
- في النظر إلى المخطوبة (انظر إليها؛ فإنه
أحرى أن يؤدم بينكما).
- في عدم قتل المنافقين زمن النبي عليه
السلام: (إني أخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
من آثار الصحابة رضي الله عنهم:
- لما تزوج حذيفة بيهودية، كتب إليه عمر بأن
يطلقها، فسأله عن حرمة ما فعل؟ فرد عليه: (إني أخاف أن يقتدي بك المسلمون،
فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين).
- ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى
أمراء الجيوش والسرايا بألا تقام الحدود على رجل وهو في حال الغزو، حتى يرجعوا؛
وعلل ذلك بألا تحمله الحميّة فيلحق بالكفار. وروي عن أبي الدرداء وحذيفة مثل ذلك[2].
من آثار الأئمة الأربعة رحمهم الله:
- فعن أبي حنيفة في غنائم الحرب: أن تُتلف
في حال العجز عن حملها، كراهة أن ينتفع بها المشركون.
- وعن مالك أنه أفتى الأمير بعدم إعادة بناء
الكعبة على قواعد إبراهيم؛ لئلّا يتلاعب الناس بالبيت.
- وعلل رحمه الله ما ورد من النهي عن السفر
بالقرآن إلى أرض العدو: بمخافة أن يناله العدو.
- وأفتى الشافعي بجواز قطع الشوك من فروع
الشجر في الحرم، لأذاه على الناس.
من تقريرات فقهاء المذاهب الأربعة رحمهم الله:
- أنهم عللوا كثيراً من الأحكام بالحاجة
والمشقة مما هو راجع إلى الحكمة، وقاسوا بناء عليها:
- فأجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن
والإمامة بعلة دفع الضرر، مع وجود النص المانع.
- وأجاز الحنفية والمالكية دفع الزكاة لبني
هاشم لما ضاعت حقوقهم، بعلة دفع الضرر عنهم، مع وجود النص المانع.
فهذه الأمثلة، دلائل ظاهرة على ربط الأحكام بالحكم والمصالح، فلماذا اقتصر
بعض الأصوليين التعليل بالأوصاف الظاهرة المنضبطة، دون الحكم؟
كما سبق: أنهم أرادوا ضبط الأقيسة
المنقولة عن أئمتهم بضوابط عامة لا تضطرب ولا تختلف، فلا يشذ عنها فرع من الفروع
المقررة في مذاهبهم.
بدليل:
أولاً:
ما صرح به كثير من أن العلة هي الحكمة، وأن الوصف
الظاهر إنما هو ضابط للحكمة فقط. كما صرّح الجويني أن ضبط التعليل بتلك
الضوابط حتى لا تترك لاصطلاح كل واحد، فيمنع الخلط في الاجتهاد. ويقول ابن الهمام
أن العلة الحقيقية للحكم هي الأمر الخفي، المسمى حكمة، وأن الوصف الظاهر مظنة
العلة، لا نفس العلة، لكنهم اصطلحوا على إطلاق العلة عليه. فـ(الحكمة) هي: التي
لأجلها صار الوصف علة، كذهاب العقل في الإسكار. و(المظنة) هي: الأمر المشتمل على
الحكمة الباعثة على الحكم، كالمشقة في السفر، كما قرر القرافي.
ثانياً:
أن أصحاب المذاهب عللوا الحكم بالوصف الظاهر دون
العلة الحقيقية؛ خوفاً من نقض يرد على تلك العلة بفرع في المذهب.
شروط
العلة [244]
1- أن تكون وصفاً ظاهراً.
2- أن تكون وصفاً منضبطاً.
3- أن تكون وصفاً مناسباً للحكم.
4- ألّا تكون وصفاً قاصراً على الأصل.
5- أن تكون ثابتة بدليل شرعي.
[1. أن تكون وصفاً ظاهراً]
وهذا
شرط متفق عليه.
ومعنى (الظهور) الجلاء، والإدراك بأحد الحواس الظاهرة؛ ليتحقق الغرض المقصود وهو تعريفها للحكم؛ كالإسكار
للتحريم، والقتل للحرمان من الميراث، والطلاق لإيجاب العدة.
إذن،
لا يصح أن تكون العلة أمراً خفياً؛ لأن خفاءها مانع
من كونها معرفاً للحكم، فلا يمكن التحقق من وجودها أو عدمها؛ فلا يصح تعليل نقل الملكية بالتراضي؛ لأنه أمر خفي لا يدرك
بالحس.
[2. أن تكون وصفاً منضبطاً]
وهذا
شرط متفق عليه.
فالقياس
يقوم على التساوي بين الأصل والفرع في علة الحكم، فإن لم تكن العلة منضبطة امتنعت
المساواة.
(الوصف المنضبط) الذي له
حقيقة واحدة معيّنة، لا تختلف باختلاف محالّها، ويمكن التحقق من وجودها في الفرع.
فلا يصح التعليل بأمر مضطرب غير منضبط.
فالمنضبط
مثل: [السفر] في
إباحة فطر المسافر في رمضان. و[ملك النصاب]
في وجوب الزكاة.
والمضطرب
مثل: [المشقة]
في إباحة فطر المسافر في رمضان. و[الغنى]
في وجوب الزكاة.
[3. أن تكون وصفاً مناسباً للحكم]
معنى
كونه (مناسباً) أن يترتب على شرعية الحكم عنده مصلحة، يظن أنها مقصودة
للشارع.
مثل: الإسكار، فهو مناسب للتحريم وإيجاب العقوبة، ويترتب على هذا مصلحة
حفظ عقول العباد.
ومثل: قتل الوارث مورّثه، مناسب لحرمانه من الميراث؛ لأن ترتب الحرمان على ذلك القتل
يحقق مصلحة دفع العدوان عن هذا الصنف من الناس، وقطعاً لأي ضرر قد يحصل لو لا
تشريع هذا الحكم.
إذن، لا يصح التعليل بالأوصاف (الطردية) ولا الاتفاقية التي لا مناسبة بينها وبين الأحكام:
مثل: تعليل تحريم الخمر بكونه عصير عنب، وتعليل
وجوب القصاص بكون القاتل رجلاً.
[4. ألّا تكون وصفاً قاصراً على الأصل]
وهذا
شرط متفق عليه في علة القياس؛ لأن القياس يقوم على
المساواة في العلة بين الأصل والفرع، فلو كانت العلة قاصرة على الأصل لم يوجد
القياس لعدم وجود العلة المشتركة، فلا يصح
حينها تعليل تحريم الخمر بأنها عصير العنب المخمّر؛ لأنها علة لا توجد في غير
الخمر، بخلاف الإسكار.
فيجب
أن يكون الوصف المعلل به مما يمكن تحققه في غير محله الأول.
[5. أن
تكون ثابتة بدليل شرعي]
لأنها إن لم تكن كذلك،
كانت مجرّد دعوى من غير دليل يثبتها، وهذا مردود
بالاتفاق.
والأدلة
التي تُثبَت بها العلة تسمى (مسالك العلة).
مسالك العلة [248]
هي
طرق معرفة العلة.
منها
ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه، وفي الجملة ترجع إلى: النص والإجماع
والاستنباط.
وهي:
1- النص
2- الإيماء
3- الإجماع
4- السبر والتقسيم
5- المناسبة
[من خارج
الكتاب :- ]
6- الشبه
7- الدوران
8- الطرد
9- إلغاء الفارق
[النص]
أن يدل الكتاب أو السنة صراحة على أن الوصف علة. سواء كانت دلالة قطعية أو
غير قطعية.
والعلة
الثابتة عن طريق هذا المسلك هي العلة المنصوصة، وهي أقوى أنواع العلل.
الدلالة القطعية: أن يفيد اللفظ العليّة من حيث الوضع اللغوي. كـ "علة
كذا" و"سبب كذا" و"من أجل كذا" و"كي"
و"إذن" الخ.
- مثل (من أجل) : {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو
فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} أي من أجل قتل قابيل هابيل كتب ذلك.
(إنما جُعل الاستئذان من أجل
البصر).
- و (كي) :
{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول
ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء
منكم}
- و (إذن) :
سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الرطب بالتمر، فسألهم:
(أينقص الرطب إذا جف؟) قالوا: نعم، فقال: (فلا إذن).
- وأيضا: (علة كذا) و(سبب كذا)
الدلالة غير القطعية: ألّا يختص اللفظ -من حيث الوضع- بالدلالة على العليّة.
- مثل حرف اللام الظاهرة والمقدرة: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
- وحرف الباء:
{فـبظلم
من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} فمنعوا لظلمهم.
- وإن:
(إنها من
الطوافين عليكم والطوافات) تعليل لعدم نجاسة سؤر الهرة.
[الإيماء]
لغة:
التنبيه
والإشارة.
اص:
ما يدل على عليّة الوصف بقرينة من القرائن.
كاقتران
الحكم بوصف أو ترتيب الحكم عليه، فدل الاقتران أو الترتيب على أن الوصف علة الحكم.
أمثلة:
- قال سبحانه {الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة}، فإن ترتيب الحكم (وجوب الجلد) على الوصف (الزنى)
بـ(الفاء)؛ يومئ إلى أن الزنى علة وجوب الجلد.
- قول النبي عليه الصلاة والسلام للأعرابي
الذي قال "واقعت امرأتي في نهار رمضان": (اعتق رقبة)؛ فترتيب وجوب
الإعتاق على قول الأعرابي "واقعت"؛ يومئ إلى أن هذا الفعل –وهو جناية
على الصوم- علة وجوب الكفارة.
- حديث (لا يقضي القاضي وهو غضبان) اقتران
النهي عن القضاء بالغضب يومئ إلى أن الغضب علة النهي.
[الإجماع]
أن يدل إجماع الأمة في عصر من العصور على كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل.
أمثلة:
- الإجماع على أن علة تقديم الأخ الشقيق على
الأخ لأب في الميراث هي: امتزاج النسبين (كونه من الأبوين)، فيقاس عليه تقديم الأخ
الشقيق على الأخ لأب في ولاية النكاح، والصلاة عليه، بجامع امتزاج النسبين.
- الإجماع على أن علة النهي في حديث (لا
يقضي القاضي وهو غضبان) هي تشوش الفكر وشغل القلب. فيقاس عليه كل تشويش كالجوع
الشديد وغيره.
[السبر والتقسيم]
الـــــســبر،
لغة: الاختبار.
اص: اختبار
صلاحية الوصف للعليّة.
التقسيم، لغة: تجزئة الشيء.
اص: حصر
الأوصاف الموجودة في الأصل التي يظن صلاحيتها للعلة ابتداءً.
فمسلك السبر والتقسيم: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل، واختبار صلاحيتها للعليّة، فيُعيّن
الصالح، ويبطل ما لا يصلح.
والسبر
هو أهم الأمرين في الدلالة على العلية، والتقسيم وسيلة إليه؛ لذلك قُدّم السبر على
التقسيم في تسمية هذا المسلك، مع كون التطبيق على العكس.
محل هذا المسلك: أن يرد نص شرعي بحكم،
ولم يوجد في النص ما يدلّ على العلة، ولم يجمعوا على علة معيّنة.
مثاله:
- تحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة التمر، وهذا منصوص
عليه.
فلم يوجد في النص ما يدل على العلة، ولا إجماع على تعيينها.
فيجتهد المجتهد عن طريق مسلك السبر والتقسيم لاستخراج العلة، فيقول:
العلة: إما الطعم أو القوت أو الادخار أو الوزن.
ثم يختبر هذه الأوصاف، فيعيّن الصالح، ويبطل ما سواه.
فأما الطعم: فلا يصلح؛ لأن النقدين مما ثبت تحريمه عند التفاضل، وليسا من
المطعومات.
وأما القوت والادخار: فلا يصلحان؛ لأن التحريم ثابت في الملح، وليس من
الأقوات.
فلم يبق إلا الوزن، فيتعين أن يكون علة.
فيقيس عليه كل المقدرات بالوزن مما لم يرد به نص.
[واختلف
أهل العلم في علة هذا الحكم؛ لاختلافهم فيما يصلح مما لا يصلح للعلية، ومناسبة
الأوصاف للأحكام: فالحنفية على أن القدر مع اتحاد الجنس هو العلة، والشافعية
على أن الطعم في المطعومات مع اتحاد الجنس هي العلة، والثمنية في الذهب والفضة، والمالكية
على أنها الاقتيات والادخار فيما عدا الذهب والفضة فهما على الثمنية]
- حكم تزويج الأب ابنته البكر الصغيرة، وهذا منصوص عليه.
فلم يوجد نص أو إجماع بتعيين علة الحكم.
فيبحث المجتهد عن العلة، فيقول:
العلة إما لكونها صغيرة أو لكونها بكراً، فيختبر الوصفين.
فأما كونها بكراً، فلا يصلح؛ لأن الشارع لم يعتبرها علة في حكم من الأحكام،
كالولاية على المال.
فبقيت علة الصغر؛ لأن الشارع اعتبر الصغر في الولاية المالية، فجعل للأب حق
الولاية على مال الابن الصغير لأجل صغره، فالولاية المالية من جنس ولاية التزويج،
فما ثبت كونه علة لأحدهما يكون علة للآخر.
فيقيس على البكر الصغيرة: الثيب الصغيرة؛ بجامع الصغر فيهما.
[خلاف:
فالحنفية أنها الصغر. والشافعية أنها البكارة لحديث (الثيب أحق
بنفسها) وهذا يشمل الكبيرة والصغيرة، فلا يصلح كون الصغر علة]
وهذا المسلك إما قطعي أو ظني:
1. القطعي:
قام الإجماع على أنه ليس لهذا الحكم أوصاف تصلح للتعليل غير ما ذُكر، وكان الإبطال
للأوصاف قطعياً، إلا لوصفٍ متبقٍ؛ تعيّن ذلك الوصف للعليّة،
واتفق على كونه مسلكاً للعليّة.
2. الظني:
إن كان الحصر كلّه ظني، أو غالبه قطعي إلا وصفاً واحداً ظنياً. وهذا نفاه عامة
الحنفية واعتبره غيرهم.
[المناسبة] 257
هو تعيين الوصف للعليّة بمجرّد إبداء الملاءمة بينه وبين الحكم مع السلامة
من القوادح.
وملاءمة الوصف للحكم: أن يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة؛ جلب منفعة أو دفع مضرة. وهذه
المصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم.
ويسمى
هذا المسلك أيضاً: تخريج المناط؛ لأنه
استخراج ما نيط الحكم به.
فيه
خلاف، والجمهور على اعتباره.
محل تعيين العلة عن طريق المناسبة:
إذا نص على الحكم من غير تصريح بالعلة.
فيستنبط
المجتهد بطريق المناسبة إن لم يوجد طريق آخر من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم متفق
عليه.
إلا
إذا قام دليل على عدم اعتبار تلك المصلحة المترتبة؛ فلا تعتبر المناسبة، لأن
الشارع ألغاها لمفسدة ترجع لها.
فالوصف المناسب ثلاثة أنواع من حيث اعتبار الشارع له:
1- شهد باعتباره:
بأن رتب الحكم على وفقه في محل آخر. ولا خلاف
في اعتباره بين العلماء.
·
كتعليل
نقض الوضوء بمس الذكر لحديث (من مس ذكره فليتوضأ) [المناسب المؤثر، المعتبر بالنص]
·
تعليل
القصاص في القتل بمثقّل بالقتل بمحدّد [المناسب الملائم]
2- شهد بإلغائه:
بأن رتب الحكم على خلاف ما يقتضيه الوصف.
·
فتوى
العالم الذي أفتى الأمير حين واقع في نهار رمضان لأنه لا يرتدع عن الجماع؛ لكثرة
مماليكه وماله، فلا ينزجر إلا بالصيام. فتعليله -وإن كان مناسباً- إلا أن ترتيب
الشارع للكفارة دون تمييز بين المكلفين ألغاه؛ لحديث الأعرابي الذي واقع أهله في
نهار رمضان، فأمره بالإعتاق، ثم بالصيام، ثم بالإطعام حال العجز عن الأولين.
3- لم يشهد باعتباره ولا بإلغائه، ويسمى المناسب المرسل، و)المصالح المرسلة، والاستصلاح(.
·
جواز
رمي الكفار المتترسين بالمسلمين لحفظ الأمة إذا غلب على الظن أنهم إن لم يرموا
يهلك المسلمون.
[الشبه]
لغة: المثل.
اص: اختلفوا:
فقال الأكثرون: الوصف الذي
لم تظهر مناسبته بعد البحث التام، ولكن عهد من الشارع الالتفات إليه في بعض
الأحكام.
فهو منزلة بين منزلتي: المناسب والطرد.
فيشبه المناسب من حيث التفات الشرع إليه في الجملة. ويشبه الطرد من حيث
أنه غير مناسب (أي لم تظهر مناسبته).
مثال:
الطهارة بالنسبة إلى تعيّن الماء في إزالة النجاسة؛
فإنها وصف لم تظهر مناسبته لتعيّن الماء، ولكن عهد من الشارع اعتبار الطهارة
بالماء في الوضوء.
الخلاف في حجية الشبه:
1-
[الجمهور] حجة،
واستدلوا:
·
جواب النبي صلى الله عليه وسلم على السائل عن امرأته
التي ولدت غلاماً أسود: (لعلّه عرق نزعه)، فشبّه حاله في نزع العرق من أصوله بنزع
العرق من أصول الفحل.
·
إن القدر الحاصل من المناسبة في الوصف الشبهي -بالتفات
الشارع أو اعتبار الجنس او استلزام المناسب- كاف في الظن بالعليّة، ومثل هذا الظن
لا يهدر، فوجب التمسك به من حيث لا سبيل إلى غيره.
2-
[أكثر الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة] ليس
بحجة، واستدلوا:
·
الشبه ليس بمناسب، فيُردّ اتفاقاً.
(رد:
غير المناسب قسمان: شبهي وطردي، والمردود بالاتفاق هو الطردي لا الشبهي، بل ثبت
العمل بالشبهي عن الأئمة وجمهور العلماء).
·
لم يثبت عن الصحابة التمسك بالشبه.
(رد:
عدم عملهم به لا يلزم منه عدم الجواز؛ لاحتمال ثبوته بدليل آخر. ولعل قياسهم في
مسألة الجد مع الإخوة من هذا النوع).
3- [الرازي، والجصاص] الشبه حجة معتبرة فيما يغلب على الظن أنه مناط الحكم،
بأن يظن أنه مستلزم لعلة الحكم؛ لأنه متى ثبت أنه يفيد الظن وجب أن يكون حجة.
عمل الأئمة بقياس الشبه:
- الإمام أبو حنيفة: ألحق التشهد الثاني بالأول في عدم الوجوب؛
لأنهما تشهدان.
وعدم تكرار مسح الرأس بتشبيهه بمسح الخف والتيمم،
من حيث كون كل منها مسحاً.
- الإمام الشافعي: أوجب النية في الوضوء قياساً على التيمم؛ لأنهما
طهارتان، فلا يفترقان.
وقاس إزالة النجاسة على طهارة الحدث في تعيّن
الماء لهما، لأنهما طهارتان.
- الإمام أحمد: أوجب الجلوس الأول قياساً على الثاني؛ لأنهما
جلوسان.
[الدوران]
ويسمى: الجريان.
ويسمى: الطرد والعكس،
فهو كلي طردي عكسي (بخلاف مسلك "الطرد"
الذي هو طردي لا عكسي)
معناه: أن يوجد الحكم عند
وجود وصفه، وينعدم عند عدمه.
مثال:
التحريم مع السُكْر في العصير، فإنه لما لم
يكن مسكراً لم يكن حراماً، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة، ثم لما زال السكر
باستحالته خلاً = زال التحريم، فدل على أن العلة السكر.
حكمه: اختلفوا:
- قيل: هو قطعي في إفادة العليّة، بدليل مناسبة الإسكار لحرمة
الخمر.
-
[الحنفية] لا يفيد العلية،
لجواز أن يكون الوصف ملازماً للعلة لا نفس العلة، كرائحة الخمر.
-
[الجمهور] ظني؛ لأن اقتران
الوجود بالوجود والعدم بالعدم يغلب على الظن أن العلة مدار الحكم، وقد يحصل به
القطع أحياناً.
[الطرد]
لغة: اتباع الشيء للشيء وتتابعهما.
اص: مقارنة الحكم للوصف من
غير مناسبة بينهما. فلا هو مناسب ولا هو شبه.
والفرق بين الطرد وبين الدوران (أو الطرد والعكس): أن
الطرد عبارة عن المقارنة في الوجود دون العدم، أما الدوران عبارة عن المقارنة
وجوداً وعدماً.
مثاله: الخل مائع كالماء، إلا أنه لا يُبنى على
جنسه بناءٌ، إذن لا تزال به النجاسة، قياساً على الدهن فإنه لا يُبنى على جنسه
بناءٌ فلا تزال به النجاسة، بخلاف الماء فإنه يبنى على جنسه فتزال به النجاسة.
فإقامة البناء وعدمها لا مناسبة فيها للحكم أصلاً.
وأكثر العلماء على رد هذا المسلك؛ لانتفاء المناسبة عنه.
[إلغاء الفارق]
هو بيان أن الفرع لم يفارق الأصل
إلا فيما لا يؤثر، فيثبت الحكم لما اشتركا فيه.
كالنهي عن صب البول في الماء الراكد، قياساً على البول
فيه، والفارق: أن التبوّل نزول البول من فرج، وهذا لا تأثير له في منع النهي،
فاشترك الأصل والفرع.
أنواع الاجتهاد في العلة ص260
الاجتهاد في العلة -التي هي مناط الحكم- على 3 أنواع:
1-
تخريج المناط.
2-
تنقيح المناط.
3- تحقيق المناط.
لأن العلة (المناط) إما ألّا تذكر مع الحكم، فتُستنبط =
فهذا تخريج المناط
وإما أن تُذكر، ولكنها مختلطة بأوصاف أخرى، فيخلّص الوصف
الصالح للعليّة من غيره = تنقيح المناط
وإما أن تكون معلومة منقّحة = فيقوم بتعريف محالها
الأخرى التي توجد فيها = تحقيق المناط.
[تخريج المناط]
هو استنباط العلة غير
المذكورة في نص الحكم.
مثال:
تحريم الربا في الأصناف الربوية، وتحريم الخمر.
[تحقيق المناط]
هو النظر في وجود علة الحكم
في غير محله المنصوص أو المجمع عليه.
مثال القرآن: قوله تعالى {ويسألونك عن
المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} فدل النص على أن علة اجتناب
النساء في المحيض، هي (الأذى)، فيبحث المجتهد بعد ذلك عن وجود الأذى في غير
المحيض، فيجده مثلاً في النفاس، فيعدى الحكم (وجوب الاعتزال) حينئذ إليه.
مثال السُنة: قوله عليه الصلاة والسلام في الهرة (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم) فجعل
(الطواف) علة لعدم نجاسة سؤرها، فيلحق سواكن البيوت الأخرى بها في الحكم.
[تنقيح المناط]
هو تهذيب العلة مما اقترن بها من الأوصاف التي لا
مدخل لها في العليّة.
موضعها: فيما إذا أضاف الشارع الحكم إلى سببه،
فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في العلية، فيجب حذفها عن الاعتبار ليعدى الحكم إلى
غير محل النص؛ إذ لو بقيت هذه الأوصاف لقصرت الحكم على من ورد بسببه.
مثال: قول الأعرابي (هلكت
وأهلكت يا رسول الله)، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما صنعت؟) قال: (وقعت على أهلي
في نهار رمضان)، قال: (اعتق رقبة). ففي النص إيماء أن العلة هي الوقاع، وقد
اقترن بهذه العلة أوصاف أخرى لا مدخل لها، فتُحذف؛ مثل: كون الواطئ أعرابياً، وكون الموطوءة زوجة،
وكون الوطئ في القبل.
[الحنفية والمالكية: ألغوا وصف الوقاع، وجعلوا المؤثر
(انتهاك حرمة رمضان بتناول المفطر عمداً)، فألحقوا الكفارة بالأكل والشرب عمداً.
فاجتمع في هذا: تنقيح وتحقيق.
الشافعية
والحنابلة: قصروا وجوب الكفارة على إفساد الصيام بالوقاع، فلا
تتحقق العلة المؤثرة في الأكل والشرب عمداً. فهذا مثال لتنقيح المناط فقط].
حكم القياس، يراد بالحكم هنا أمرين: أثره المترتب عليه، وحكمه
التكليفي.
أما حكمه بمعنى أثره
المترتب عليه: فهو ظن ثبوت حكم الأصل في
الفرع، وهو التعدية؛ فلا يثبت به حكم ابتداء.
حكمه التكليفي:
1-
فرض عين، في حالتين:
·
إذا وقعت الحادثة للمجتهد أو استفتي فيها ولم يوجد غيره.
فهي على الفور إن خاف فواتها، وهي على التراخي إن لم يخف.
·
إذا استفتي فيها مع وجود مجتهد آخر، ولكنها لا تحتمل
تأخيراً ويخشى فوات مقصودها.
2-
فرض كفاية: إن وقعت الحادثة، وتعدد المجتهدون، ولم يخف فواتها؛
حينها يتوجه الطلب إلى الجميع.
3-
مندوب: إن كان قبل وقوع الحادثة، سواء قبل السؤال أو بعده.
4-
حرام، في حالتين:
·
إن كان ممن لم يتأهل؛ لعجزه ولعدم استيفائه أسباب النظر
الصحيح.
·
إن كان في غير محله، بأن يكون في مقابل النص الصريح أو
الإجماع الصحيح.
أهلية القياس 265
أهلية القياس هي أهلية الاجتهاد، وشروطها معلومة
- العلم بالكتاب والسنة، وما
فيهما من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ ...
- والعلم بمواضع الإجماع
لأن القياس لا يكون إلا على حكم ثبت أصله بالنص أو
الإجماع.
- والعلم بالقياس
- والعلم باللسان العربي
لأن النصوص عربية، وفهمها لا يكون إلا عن طريق
معرفة اللسان العربي.
- والعلم بمقاصد الشريعة
- وأن يكون صحيح العقل والنظر
والحمد لله رب العالمين
[2] انظر هذه الآثار: سنن سعيد بن منصور، رقم 2499 إلى 2501.
ومصنف ابن أبي شيبة، رقم 28861 إلى 28863 (5/549).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق